news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
الشرف الحقيقي... بقلم : هبه محمد
syria-news image

أجل, هذا قدرنا, مصير احدنا مربوط بالآخر


خرجت تلك الكلمات حادة وقاطعة. الدم يغلي في عروقها, يصعد من أخمص قدميها إلى أعلى رأسها, ثم يهبط من جديد كأنه جبل جليدي انهار بفعل هزة عنيفة. الأفكار تطير إلى أعلى سماء تفكيرها في لحظة, ثم تغوص من جديد في عمق بحر تفكيرها في لحظة أخرى.

صدرها يرتفع ويهبط بأنفاس متقطعة, أو ربما بنفس واحد لا ينته ولا ينقطع. في عينيها نظرة تكاد لا تصدق ما ملأ اتساعهما, فراغ ملأ اتساع العيون الزرقاء الواسعة, لكن الفراغ امتلأ بدموعها, دموع فاضت من عينيها وانهمرت على خديها الملتهبين, ثم رسمت بقع تداخلت أشكالها على صدر قميصها الملون بلون البنفسج المعرّق.

لم تمسح الدموع الجديدة التي تجمعت في عينيها, تركتها لتبرّد الخدين الملتهبين ولتطفئ نار ذكرياتها الجميلة التي احترقت. تنفست بنفس طويل لا ينقطع, أو بنفس لم يدخل رئتيها من قبل. أمسكت حقيبتها ومعطفها, ثم اتجهت نحو الباب بخطوات ليست سريعة وليست بطيئة, لكنها قوية, ثابتة, ومتزنة. تضرب الأرض بكعب حذائها بثبات وقوة, قوة يزيدها إحساس عارم من النشوة ينتفض به جسدها المشدود. فتحت الباب, وألقت نظرة أخيرة على الداخل, ثم أغلقته بقوة هزت البناء بصدى صوتها.

كانت المسافة  إلى المنزل اقصر, والشوارع التي مشت بها كانت أوسع مما اعتادت عليها, بدت خالية من الناس والحيوانات والسيارات وكل شيء إلا هي. لم تلتفت لأحد وكأن الناس ليسوا موجودين, أو لقناعتها أنهم ليسوا إلا أخيلة, أخيلة تمشي بكل فخر  مدعية أنها بشر, من لحم ودم وأحاسيس, بشر يتناسون أن الأيام أكلت لحمهم وشربت دمهم وحرقت أحاسيسهم وتركتهم.. أخيلة تمشي بفخر مدعية انها بشر.

نظراتها ثابتة إلى الطريق أمامها, لا تلتفت لا يمنة ولا يسارا, لا تنظر في وجوه الناس المارين بها, وجوه لطالما عرفَت من سواد ملامحها وترنح مشيتها والصمت القابع في وجوهها انها ليست إلا مومياءات ملفوفة بأشرطة سوداء لتغطي السواد المتربع على عروش داخلها.

في اللحظة التي فتحت ولاء الباب لها, بدت الريبة واضحة في عينيها عندما رأت أختها التي تركتها منذ ساعة عائدة إليها. دخلت علا إلى غرفتها بهدوء تام بدون أن تتلفظ بكلمة, بدون أن تنظر في وجه أختها. وما إن وصلت علا إلى سريرها حتى دخلت أختها خلفها بالهدوء نفسه, ولكن بريبة أكثر حدة.

وجدتها هناك, على سريرها. عيون علا شاخصة في سقف غرفتها العالي, هناك في تلك الثريا التي يتوسطها ضوء وهاج ابيض يعكس لونه على أشكالها عند إنارته, وعلى وجهها ابتسامة مليئة بغرابة تغمرها لذة غريبة, جسدها ممدد على سريرها باسترخاء تام وكأنه لم يعرف الاسترخاء أبداً.

علا, ماذا بك؟

أحببته بقدر نفاق الناس وخداعهم وانخداع الآخرين بهم. قال لي يوما إننا واحد, مصير أحدنا مربوط بالآخر .. الكذب كغيره, يحتاج إلى فن كي يوقعنا بشباكه, لكن بعض الأغبياء لا يعلمون أن لديك ما يمزق تلك الشباك.

عيونها لا تزال شاخصة في تلك التي في سقف غرفتها العالي, الكلمات تخرج من فمها هادئة, صلبة, وقوية.

ماذا حدث؟  لم يمض على زواجكما عام, وها قد بدأت المشاكل!! ثم انك كنت قبل قليل سعيدة, فماذا حدث؟

ظلت علا صامتة وكأنها لم تسمع تعليق أختها المداعب المجرّر.  شدت ملامح وجهها, قطبت حاجبيها, وتلاشت تلك الابتسامة عن فمها. صمتت الأختان للحظات. جلست خلالها علا على طرف سريرها, وأشاحت بنظرها إلى نافذة غرفتها, قطبت حاجبيها أكثر, وقد يكون ضوء الشمس المشع من تلك النافذة هو السبب, وقد يكون هناك شيء آخر, أبعد من تلك النافذة, أو ربما أبعد من ضوئها, أو ربما ابعد من الشمس ذاتها.

"ولاء" تتابع تغير ملامح أختها بخوف متزايد مع لهجتها الحادة وملامحها الجادة. رأت تلك النظرة في عينيها, نظرة مليئة بالكثير من الكبرياء الذي لا يمكن أن يمسه احد, نظرة مليئة بشيء يشبه الإصرار, أو ربما الرغبة في الانتقام, أو ربما بشيء آخر ابعد من الإصرار والرغبة في الانتقام, أو ربما شيء يجمع الكبرياء والإصرار والانتقام.

ما المشكلة؟ أجيبيني!

ظل الصمت قابعا في فمها, والنور من تلك النافذة غازيا عينيها ومستقرا بهما, ثم بدأت تحرر شفتيها من صمت ذكرياتها الذي أطبق على فمها للحظات:

حبي ليس رخيصا حتى  يبيعه ويشتريه ويتلاعب به كما يحلو له. أعطيته أغلى الأشياء علي, قلبي وروحي وثقتي وحبي وجسدي, وهو أراد أن يدوس عليها, جميعها, بدون أي اكتراث لي! اليوم بعد أن جئت إليك من سفري

_أجل.. أتيت وأخذت مفتاح المنزل لأنك غبت لشهر ولم ترغبي في أن تأخذي المفتاح معك, هذا اعرفه, ثم ماذا حدث؟

ذهبت للمنزل, لم اخبره أني قادمة اليوم. صعدت الدرج إلى الشقة بشوق كبير, وعندما وصلت كان المفتاح لازال بيدي متلهف لفتح الباب , وقبل أن ادخله بالباب

_ماذا؟

لا تقاطعيني.. في تلك اللحظة فتح الباب أمامي بلمسة سحرية منها, وقفَت للحظة وألقت علي نظرة خاطفة, ثم التفتت لذاك الشاب الذي دُهش عندما رآني, رغم رائحة السكر التي كانت تنبعث منه.. التفتت له وقالت بعد أن رأت المحبس بإصبعي "أنت قادر حتى على جر المتزوجات إلى شقتك" وكأنها لم تر صورنا في المنزل! وتعالت ضحكتها في المكان.

نزلت الأدراج, وخرجت من البناء إلى الشوارع, ودخلت المنازل, ثم صعدت الأدراج وخرجت من سطح البناء, وطارت في السماء وهي تجلجل في رأسي. لم تكتف بهذا, بل قالت أيضا بثقة أدهشتني " شريف ملاذ أي امرأة ترغب في الانتقام من شريف آخر, أليس كذلك؟ " كانت تخاطبني أنا, وكأنها علمت بخبرتها أني قادمة لنفس الغرض الذي جاءت من اجله. لم يفارقها الضحك للحظة. رأيت في إشراقة عينيها انتفاضة نشوة واضحة, ربما هي نشوة الانتصار, الانتصار في الانتقام من "شريف" آخر.  ثم ذهبت وهي تضرب الأرض بكعب مبسمر عال كأنه يضرب في راسي.

كان يسكر مع _؟! شريف !

نعم. كان واضحا انه لم تغمض لهما عين ليلة البارحة. عندما دخلت شعرت أني في مقهى ليلي, رائحة الخمر تشبه في قذارتها رائحة حاوية القمامة, دخان السجائر يملأ المكان الذي تحول إلى محرقة للقمامة. الروائح ملتصقة على كل أغراض المنزل.

دخلت وأغلقت الباب خلفي. بدأ يستفزني أكثر وأكثر, لم يهتم لقرفي من ذاك المنظر في اللحظة التي فتح الباب أمامي, لم يهتم بأي شيء. لأول مرة أرى المرض في عينيه, عيون لا تحوي إلا الصفرة والاحمرار. انطلقت الكلمات من فمه برائحة أبشع من رائحة فمه المليء برائحة الخمر والسجائر. شعرت بأنه ما من شيء يدخل انفي إلا رائحة مجاري المياه, تفوح منها رائحة قذارة البشر, بشر تجاوزت رائحتهم رائحة قذارتهم. صدّقت كل كلمة قالها, كان أكثر قذارة من ألا أصدقه, وأكثر نفاقا من أن أغمض عيني عن حقيقية ما يقول, وأكثر دناءة من أن احجب حواسي عن قذارة الكلمات والأفعال التي كان يتقيأ بها

_ماذا قال؟

قال إن تلك لم تكن المرة الأولى ولا المرأة الأولى, وان تلك المرأة لا تختلف عني, بل هي صورة عني_ كلانا تركت زوجها وذهبت لرجل آخر _ كلانا لم تكتف بزوجها_ الغبي, قلت له إني ذاهبة بسبب العمل, لا يثقون بشيء, لا يحتملون العيش إلا في القذارة_ قذارة تفكيرهم وأوهامهم. ولكن الرزيلة لا تحتاج إلى أي سبب, يكفي أن تكون إنسان لا تحوي في داخلك إلا القذارة.

اهدئي عزيزتي, اهدئي. لابد أن والدنا سيخلصك منه.

اقتربت منها ولاء, وبدأت بالتخفيف عن أختها وهي تعتصر يدي أختها بين يديها. ارتسمت على وجه علا ابتسامة أخرى, سرعان ما رأتها ولاء وتذكرت أن القصة لم تنته بعد, ولم تجد نفسها إلا والسؤال نفسه ينطلق من فمها, ولكن بخوف أكبر:

ثم ماذا حدث؟

_ قتلته

ما_ ذا؟ قتـ.. قتلـ ..ته.. قتلت شـ..ريف؟!

انتفضت ولاء من جانب علا, تركت يديها ووقفت أمامها. جمّدت الصدمة نظرة عينيها إلى أختها, تخشب جسدها الواقف أمام اللامبالاة المصرة لأختها الجالسة, انفتح فمها بدهشة أطبقت شفتي علا بقوة ثابتة وحازمة.

ماذا تقولين؟! قولي انك تمزحين.. قولي هذا!

لا. لست أمزح. أربع طعنات بسكين كانت لا تزال مرمية بين قشور الفاكهة وزجاجتي العرق وبقايا السجائر. لا ادري إذا كنت قد التقطتها أم خلقتها بيدي

_كيف.. تجرأتي على قتل إنسان هكذا! أنت الطبيبة المتعلمة!

الأمر بسيط, دفاعا عن الشرف. أم انه لا يجوز لأيقونة الشرف أن تدافع عن شرفها عندما يحاول احدهم التلاعب به!

غطى الصمت الغرفة من جديد بغمامة سوداء لا يخترقها إلا ذاك النور من تلك النافذة. عيون ولاء تتسع في اتساعها لجسد أختها, ثم تابعت علا والعيون الزرقاء لا تزال شاخصة في ذاك النور:

بعد كل ما قام به لم يحتمل أن أصفه بالحقير. كان لازال في عينيه بعض الضوء ليرى بهما ذاك الاستحقار في عينيّ, نظرة اخترقت عينيه كسهم ناري. فجأة وكأنه فقاعة هواء قد فقأت, أو كأنه دمل طاف بالقيح الذي امتلأ به, انتفض بغضب عارم جعله يهجم علي كثور هائج, ثم فتح فمه وانبعثت منه الكلمات محملة برائحة فمه "اخرسي وإلا قطعت لسانك" وهوى بكفه الثخين على وجهي, وقبل أن يصل كفه إلى وجهي, أمسكته يداي بقوة. شعرت بارتخاء كفه رغم انه اعتقد انه مشدود, ولمست خفته رغم أنه تصور انه ثقيل. كانت يداي تحيطان به بعناد تام, رأيت الشرار في عينيه وأنا أقول له "إذا رفعته مرة أخرى فسأخلعه لك عن جسدك القذر" وعندما رأى النار في عيني, لم يحتمل المشهد, فتناولت أصابعه سكينا من بين تلك الفوضى على الطاولة بيننا, وقبل أن تصل سكينه إلى جسدي, كانت سكيني قد اخترقت جسده بلمح البصر.

دخلت إليه بسهولة وقوة وسرعة وهي مسنونة بغضبي واستحقاري, تخرج من مكان وتدخل آخر. سقط جسده فوق الأريكة من الطعنة الأولى, ولم أجد نفسي إلا وقد انتصب جسدي فوق جسده, والسكين بيدي تدخل وتخرج, ترتفع وتهبط, حتى.. قتلت فيه الحياة الميتة.

ظل الصمت والدهشة  فاصلا بين  شفتي ولاء في صدمة لم تستفق منها بعد. وبلحظة تصورت وحشية المشهد, ولكن بقي عقلها عاجزا عن التصديق. أخذت تقيس الغرفة بطولها وعرضها بمشية سريعة وكأنها تبحث عن شيء لتقتل به ما قالته أختها.

كيف .. كيف احتملت هذا؟ كيف احتملت مشهد الجسد وهو ينزف بضربات سكينك؟!

برغوث تطفل على حياة البشر وحكمت عليه بالموت.

برغوث!! طبيب مثلك_  وبرغوث؟! يا الهي _قولي أن هذا كله لم يحدث.. أرجوك! أنت.. أنت  تمزحين.. أليس كذلك؟

لست امزح. قتلته. وهو يستحق أكثر من هذا, وأنا سعيدة بما قمت به, غاية في السعادة, ولو أني لم افعل ما فعلت, لو أني  سمحت للخوف والجبن وتقبل الخيانة بمنعي من القيام بما قمت به, لكنت قد مت من القهر والغيظ, وأنا لم اخلق لأموت من القهر والغيظ بسبب .. حيوان قذر سخيف. سمعت هذا.. لم اخلق  لأموت من القهر بسبب حيوان قذر سخيف.

خرجت كلماتها الأخيرة بصوت هامس, هادئ, هائج بهدوئه الهامس, أو ربما هادئ بهمسه الهائج, وقد يكون هامسا بهيجان هدوئه. بدت أختها وكأنها لم تسمع ما قالته, كانت مشغولة بأفكار لم تعرفها ولم تتمكن من تتبعها بسبب غزارتها وتشتتها.

ولكن_ لا يجوز_ لا يجوز أن تقتليه لأنه خانك_ من سيصدق هذا؟ لو كل إنسان خائن يستحق القتل لكنت رأيت هذه الأرض أكبر ساحة للقيام بالمجازر الجماعية! لا يجوز_ لا يجوز_

كيف لا يجوز؟! لو كنت أنا الفاعلة ماذا كان سيحدث لي؟ ها؟ كيف لا يجوز قتل من خان ثقتي وحبي ومشاعري له؟ إذا كان الخونة لأنبل الأشياء في الحياة لا يستحقون القتل, فمن يستحق؟ من يحافظ عليها؟! من يتمسك بها؟! إذا لم يمت هو لأنه خانها, كنت أنا من سأموت لأني لا استطيع تحمل خيانتها. دنّس أسمى الأشياء بالنسبة لي _ دنسها عن قصد وعمد, جهز نفسه بترسانة من الحصانة وأولها غباء من يقبل الخيانة.

لازالت شاخصة في ضوء النافذة أمامها, تهتاج في كلمة وتهدأ في الأخرى, مشيحة بعينيها إلى البعيد, يظهر لها بنور ضيّق حدقتي عينيها, بدون النظر إلى أختها التي لازالت تقيس الغرفة بخطوات سريعة, غير مهتمة لدوران أختها في دوامة الصدمة التي لم تستفق منها بعد.

يا الهي! أختي قا..تلة!! عقلي لا يحتمل ما تنطقين به _  إذا صحّ ما تقولينه.. سيكتشف أمرك, ألم تفكري في هذا؟! لماذا قمت بذلك؟ هل توقفت حياتك عنده؟ لماذا لم ترمي له المحبس وتنهي قصتك معه بدون أن تقتليه؟! كان بإمكانك أن تتركيه, هكذا بكل بساطه, وتكملي حياتك, أن تمحي من ذهنك ذكرياته نهائيا, تلك ستكون القوة, تلك هي القوة, أن تتجاوزي الطعنة التي طعنك بها في خاصرتك, لا أن ترمي بنفسك إلى الهلاك.

بدأت أختها بالصراخ في وجهها بعد أن توقفت فوق رأسها. أدركت هول ما قامت به علا, وأدركت ما سيحدث بعد ما قامت به. أما علا, فهي على حالها, شاخصة في ذاك الضوء وتلك النافذة.

عن أي خاصرة تتحدثين؟! في تلك اللحظة, اجل توقفت حياتي عنده, توقفت حياة مبادئي عند مبادئه, كان لأحدها أن يموت وان يبقى الآخر. الانفصال عنه غير كاف.  أنت مخطئة, لا يمكن أن تكملي حياتك بشكل طبيعي أبدا وأنت تعلمين  أن هناك خنجر ألمه يمزق روحك, خنجر في صميم روحك, لا يمكن هذا.

عندما يكون لديك إيمان بتلك الروح, عندها فقط, لن يشف روحك شيئا إلا الانتقام, انتقام يليق بالألم الذي سُبب لها. لا يشف تلك الروح القوة التي تحدثت عنها, لأنها قوة غريبة عنها, جسم غريب  عنها, قوة مزيفة.  القوة هي أن تصممي على الانتقام برغم إدراكك لكل ما سيحدث بعد تلك اللحظة, تلك هي القوة, أن تتحدي كل الكون من اجل أن ترضي روحك, روحك التي جرحت على يد إنسان.. إنسان نكتشف في لحظة انه لا يرتق لمرتبة الحيوانات.

علا.. يا الهي! توقفي عن هذا الكلام! ما هذه المصيبة! عفوك يا رب.

عليك أن تطلبي عدله. العفو لا يحصد إلا المزيد من الكفر على الأرض. اطلبي عدله يا صغيرتي, أحيانا يكون القتل شكلا من أشكال العدل الإلهي. اطلبي عدله كي يعرف الناس قيمة العفو. لو عفوت عنه, لكرر ما كان يقوم به, ولتجرأ على القيام به أمامي أيضا, عندها ارني روعة العفو والصفح

_والسجن؟

_لماذا لا تريدين أن تقتنعي,

كانت تلك المرة الأولى التي تنظر فيها  في وجه ولاء منذ أن دخلت علا غرفتها. لمحت ولاء في عيني أختها غضبا يقدح منه الصدق والإصرار, أو صدق وإصرار يلتهب بهما الغضب, أو ربما جنون ينتفض به الصدق والإصرار والغضب, وقد يكون جنونا يدور حول محور يشتعل بالتعقل. لم يكن أمام ولاء إلا أن تنشدّ لنظرة أختها ولكلماتها الهائجة بهدوئها, أو ربما الهادئة بهيجانها, وتقابل النظرة الكاسرة بنظرة منكسرة,

لماذا لا تريدين أن تقتنعي انه كان بإمكاني تشريح جسده تشريحا بتلك السكين_ علّي أجد تلك البذرة السوداء المتجذرة في جنسه.

ساد الصمت لحظات أخرى, تباعدت فيه العيون عن بعضها. لمحت ولاء في عيني أختها دموعا صامدة بكبرياء جبار, ترفض الخروج, وتبقى هناك بين الأهداب, تتحدى نظرات الآخرين لانهمارها, دموعا لا تختلف عن نظرتها وكلماتها, لها هيبة الصدق, وجبروت الغضب, وسلطة الإصرار, وألم الإحساس الذي أسيء إليه لأنثى لا تقبل الإساءة. بدت ولاء انها بدأت تتفهم ما حدث تحت إصرار أختها على ما قالته.

هذه أنت, لن تتغيري, من يلمس بساطك تسحقين حياته, ولكن_ ماذا لو اكتشف أمرك؟ ألم تفكري في هذا؟

بلى,

ردت بلهجة هادئة بعد أن عادت إلى ذاك البعيد الذي يتراءى لها من تلك النافذة.

وفكرت أيضا أنهم لو سجنوا جسدي فهذا لا شيء, أما أن اسجن روحي فهذا هو الموت

_والسجن يا علا

_توقفي عن التلفظ بتلك الكلمة! السجن هو أن أبقى حبيسة مخاوفي, هو أن انسحب واستسلم لذاك الموقف بكل ما فيه من قرف وقذارة, هو أن أعفو واصفح عنه وأنا اعلم أن اعوجاجه لن يستقيم, هو أن انفصل عنه_  أن أعفو عنه واترك روحي للعذاب_ هذا هو السجن, بل ذاك هو الحكم المؤبد والأشغال الشاقة التي سأحكم بها على نفسي. ثم_ هل الحياة إلا سجن كبير.. الحياة يا حبيبتي الصغيرة ليست إلا سجنا للأحرار فيها, انها أشبه بـ .. حديقة حيوانات كبيرة وواسعة

_هذا ليس وقت الفلسفة

_ماذا تريدين مني إذا أن أقول؟!

انتفضت علا من جديد في وجه أختها الصغرى, ولكن بنفس الهدوء والاهتياج والحدة, والتقت من جديد النظرة الكاسرة بالعين المنكسرة,

تريدينني أن أقول أني تهورت في قتله, واني نادمة, وان علي أن أتوب واسلم نفسي أيضا أو أن اهرب  أو أن ارتعش من نظرات الأخيلة الجوفاء أو أو؟! ماذا؟ أصغي إلي, لن اسمح لإنسان أن يدنس أي مقدس لي في حياتي حتى لو اضطررت إلى سحق حياته, إما أن يحفظ ما أمنته عليه أو أن يحضّر نفسه للهلاك, وأنا سأهرول بقدميّ إلى الجنة التي يصورونها على انها جحيم, جنة إرضاء نفسي والعدالة التي ينبض بها إحساسي الإنساني. ولو رغبت بالغوص في المستنقع الذي يجبرون البعض على الغرق فيه, لكنت وجدتني مع شخص آخر, مع رجل  آخر تماما كما هو مع امرأة أخرى, هل فهمت هذا؟ أنا لست نادمة على ذلك, لا أخاف السجن ولا أخاف كلام الناس, الشيء الوحيد الذي أخافه هو غضب نفسي من نفسي لان غضبها لا يرحم.

نظرت ولاء في وجه أختها, وبلحظة, مع كلمات أختها, عادت لها أختها التي لطالما أحبتها إلى حد العبادة, التي لطالما وجدت فيها شيئا إلهيا, ينبض بروح الرب, ويعبق بعبق الإنسانية_ العدالة الإنسانية, حتى لو كان القتل هو ذاك العبق الذي تستحقره الإنسانية المزيفة للكثيرين. إنسانية فارغة, ممتلئة بجثث القلوب والأرواح, تنبض بقلب ميت وتعيش على روح فقدت الروح. إنسانية مزيفة تستحقر القتل ولا تقوم بشيء إلا بالقتل!

هناك أشياء تمشي على الأرض غير البشر, لهم أشكال البشر, ولكن عندما تتبعي خطواتهم تجدين آثارا لحوافر حيوانات من أنواع مختلفة. قد لا تقتنعين بكل ما قلته, قد لا تقتنعين ببراءة أختك, وبحق الحبيبة أن تنتقم لحبها من حبيبها الخائن, وبحق إنسان في الدفاع عن من حاول قتل الإنسانية بداخله وداخل غيره, ولكن تذكري عزيزتي أن _

سكتت علا للحظات وذهبت مع عيونها من جديد إلى ذاك البعيد في تلك النافذة, نظرة لم تخف الدموع  التي انهمرت لأول مرة أمام أختها بعد رواية ما حدث. تنهدت بعمق, ثم تابعت بنفس اللهجة من الهدوء والاهتياج, وعادت تلك النظرة والدموع بها تزيد لمعانها ببريق زاد من روعة صفاء عينيها الزرقاوتين لتستقر في عيني أختها:

تذكري أن ولائك لما بداخلك يظهر عندما تجدين الآخرين يهرسونه بحوافرهم, لن يكون سهلا عليك أن تحتملي المشهد وأنت مؤمنة بقداسة ما بداخلك. دافعي عنها لأنه هي شرفك, عندها سيكون مصير من سيحاول قتل ما بداخلك, هو الموت_ سيكون مصيره مربوط بك أنت, عندها من يحاول أن يقتل بك شيئا سيكون مصيره الموت.

قالت هذا, وأشاحت بنظرها إلى البعيد من جديد.


2010-12-26
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد