تقع اللغة والإنتاج الفكري في قلب ظاهرة الهوية الثقافية , وقد عرف مفهوم الهوية نجاحا مطرداً في حقل العلوم الاجتماعية منذ السبعينيات من حيث كون المفهوم عرف عددا من التعريفات وإعدادات التأويل .
تتحدد الهوية بصفتها مجموع قوائم السلوك واللغة والثقافة التي تسمح لشخص أن يتعرف على انتمائه إلى جماعة اجتماعية والتماثل معها وبدون أن تكون مرتبطة فعليا بالولادة فقط أو بالاختيارات التي تقوم بها الذوات .
وفي معرض نقاشنا عن هويتنا الثقافية الوطنية أي ثقافتنا السورية نعلم بأن الهوية الثقافية كمفهوم وتعريف بالعموم تحتمل ثلاثة مستويات واضحة المعالم من حيث كونها ( فردية بمعنى " أنا" أمام " الآخر" .... وهوية جمعوية وهي التي تنظم الجماعة الصغيرة التي تضم الفرد ومخزونها الثقافي والتراثي .. وهوية وطنية وهوية قومية )
فعندما نقول هوية عربية فلا يعني ذلك أننا كلنا ننضوي تحت لواء الثقافة العربية بمعناها الشامل , ولا يعني ذلك أن ثقافتنا تنضوي كلها وكل مكوناتها الوطنية ضمن هذا الإطار بل يعني أننا ننهل جميعا من معين ثقافي عربي عام مع تميز واضح في مكونات الثقافة الوطنية بكامل مفرزاتها
ولعله من أهم المشاكل التي تتعلق بإشكالية الهوية الثقافية هي هذه الناحية بوصف الانتماء الأشمل دائما وكأنه يقوم على تجاوز كل ما قبلة من انتماءات بطريقة الإلغاء أو الحذف وهذا ليس صحيحا مطلقا فالتجاوز هنا هو عملية ارتقاء يعيد تنظيم مختلف الانتماءات في دائرة الدم المتجدد والتشكيل الفسيفسائي المتمم للصورة
وهنا احب أن أضيف فقرة اعتراضية سبقا لكل تأويلات
فغالبا ما يكون الخلط الواقع هو بين الانتماء الثقافي القومي والديني وبواقعنا يكون الانتماء الديني الإسلامي بحكم الأكثرية المسلمة وهذا الخلط بقي مكرسا دائما بعقليتنا كمفهوم مموه , فبصورة واقعية لم تستوعب الغالبية لهذا الموضوع وبقي الإيهام قائما .وهنا انوه أن من يريد التصدي لهذا الموضوع عليه أولا وبدقة تحديد دائرة نقاشة من حيث كونها " قومية " أم " إسلامية دينية "
فلا يخفى على أحد أن الانتماء الإسلامي يشمل دائرة أوسع وتضم ثقافات أخرى أيضا متنوعة( كالهندية والفارسية و ..الخ ) لها طابعها أيضا الثقافي والفكري والذي كما أسلفت سابقا أضاف الكثير من الايجابيات لمحيطة الأكبر
ولكن هنا وبرؤية صريحة لواقعنا الحالي وهو لب السؤال الموجه .
هل حدث وفي إطار العولمة الحديثة نوع من الصراع أو لنقل التحدي والمنافسة ضمن الدوائر الوطنية والقومية ..وهل تتعرض ثقافتنا الوطنية لهذا التحدي في إطار الدائرة العربية وهي العمق الحيوي الأول الذي يتم التفاعل المباشر بيننا وبينه أولا ثم بيننا وبين التحدي الأكبر وهو العولمة ولابد هنا من تحديد تعريفين أساسيين وبدقة
فالعالمية : أن تتفتح على العالم وعلى الثقافات الأخرى " وبالتالي تفاعل ثقافتك الوطنية أولا مع بعدها الأكبر " مع الاحتفاظ بالبعد الإيديولوجي والمسلكي والشعبي.
العولمة : والتي هي نفي الآخر وإحلال الاختراق الثقافي والصراع الإيديولوجي
فأظن انه وتحديدا بهذه المرحلة الدقيقة من أعادة تشكيل الصورة الثقافية العالمية بشكل جديد بانتشار عصر شبكه الانترنت والتفاعل الكبير الحاصل بين الثقافات أن لا نغفل عن ضرورة الحفاظ على هوية ثقافية لتكون خطوتنا الأولى للمرور إلى عالمنا الأصغر وهو الناطق بالعربية وبالتالي عالمنا الأوسع وهو عالميه الثقافة الإنسانية
فإهمال الذات وتجاوز أطرها المعرفية لا يؤدي أبدا إلى فهم الأخر فهما دقيقا , بل يؤدي إلى الانبهار به والتلقي الأعمى لكل ما ينتجه ويصدره ومن يتعامل بهذا المنحى لا يدرك تماما العلاقة الوثيقة التي تربط بين فهم الذات وفهم الآخر , وأن الطريق السوي لإدراك الأخر وفهم حركة تطوره الثقافي لا تتأتى إلا بمصالحة الذات واكتشاف معدنها الأصلي ثم التفاعل مع الآخر " واخصص هنا بالأخر بحالتنا وهو الأخر العربي في إطار الثقافة العربية أولا "
فوعي الذات ليس مسألة هلامية فضفاضة وإنما يعني المزيد من التعرف والكشف عن الثروات المعرفية والثقافية التي تختزنها وبالتالي حضورها في عملية المثاقفة مع غيرها بحيث لا تكون هذه العملية طريقا إلى هدم الأسس المعرفية التي تتكئ عليها الذات مما يؤدي إلى خلق الاندفاعية القوية والغيرة البناءة لصالح الفهم والهضم والتفاعل .
ولعلي أخيرا أضع مثالين من بين أمثلة كثيرة لمعنى التنافس وبناء هوية ثقافيه ضمن الإطار العربي الواحد وباشكاله السلبية والايجابية :
- بعض الدول العربية ( كمنطقة الخليج ) تقوم بتجنيس مبدعين من عدة مجالات حتى الرياضية لبناء ما يسمى خلفية لهوية ثقافية وحضارية جديدة
- بعض الدول ( مصر ) تمنع بث أي مادة فنية درامية في كل قنواتها الفضائيه بأي لهجة عربية ثانيه ( سورية او مغربية مثلا ) .