كثيراً ما نسمع في مجتمعنا عبارة " الشرع بيحلل لي أربعة " . عبارة تبدأ من " نكتة " يتم تداولها كثيراً في الشارع العربي و الإسلامي و يغيظ بها الرجال زوجاتهم على سبيل المزاح .
و تنتهي بواقع " مر " يدوس فيه الزوج على مشاعر زوجته و يضرب بعواطفها عرض الحائط متذرعاً بالـ " شرع " الذي أعطاه كامل الصلاحية بذلك دون أن يدرك فعلاً ما هو هذا " الشرع " الذي يتحدث عنه .
وانطلاقاً من إيماني العميق بأن الدين و المنطق لا يمكن أن يتناقضا بحثت طويلاً في هذه القضية باحثاً عن جواب منطقي يحقق المنطق و الانسانية و الدين في وقت واحد .
إن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام قد وردت في النص القرآني التالي ( النساء : 3 ) " فانكحوا ما طاب لكن من النساء مثنى و ثلاث و رباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " و نجد أن الله قد جعل من " العدل " شرطاً أساسياً لا يجوز من دونه اتخاذ أكثر من زوجة . فإن تحقق هذا الشرط و تحققت صفة العدل أصبح الأمر حلالاً و إن لم يتحقق دخل الأمر نطاق الحرمانية .
ثم يعقب الله تعالى في آية أخرى ( النساء : 129 ) " و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " . إن كلمة الله ليست مجموعة من الحروف بل إن كلمة الله في تعريفها هي " حقيقة ثابتة " و بناءً على ذلك فإن كلمة " لن تستطيعوا " هي واقع لا يمكن تبديله بأي شكل من الأشكال و عندما يقول الله بعدم القدرة على تحقيق ذلك العدل فإن هذا يعني و ببساطة أن الأمر يدخل نطاق الاستحالة و لا مجال للنقاش في ذلك .
إذاً نجد أن الله هنا قد جعل من العدل شرطاً لا يتحقق بدونه جواز تعدد الزوجات ثم عاد ليعلن صراحةً استحالة تحقق هذا الشرط الأمر الذي يشير أول الأمر إلى حرمانية تعدد الزوجات . لكننا نعود هنا لنطرح سؤالاً وجيهاً : إذا كان تعدد الزوجات محرماً فلماذا أشار الله إليه أساساً ؟
و لماذا أجازه الله و وضع له شرطاً ثم حرمه بأن نقض ذلك الشرط بنفسه ؟!
إن الفتاوى الكثيرة التي صدرت حول هذه النقطة لم تأت بالجواب الشافي . فهناك من فسر القضية بأن على الرجل أن يحاول تحقيق العدل قدر المستطاع و هو تفسير مرفوض كون النص القرآني تحدث عن تحقيق العدل و لم يتحدث عن " شرف المحاولة " . ثم تحدث البعض الآخر على أن تحقيق العدل يقصد به الأمور المادية بينما استحالة تحقيق العدل يقصد بها العواطف و المشاعر .
و هو كذلك تفسير غير مقنع فالنص القرآني لم ينوه إطلاقاً إلى ذلك ناهيك عن أن من يفسر الأمر بهذا الشكل فكأنه يعتبر المرآة " سلعة " و يتناسى حقيقة أن للأنثى عواطف و مشاعر و أنها في طبيعة خلقها تتقد غيرة فكيف يكون الله قد فرض العدل بالنسبة للأمور المالية ثم تجاهل تماماً مشاعر المرأة و فرض عليها أن تعيش حياةً منكدةً بسبب قضية التعدد تلك .
إن التفسير الذي وصلت إليه أخيراً استلهمته من اطلاعي على أبحاث الدكتور " محمد شحرور " الذي لم يتحدث عن هذه النقطة تحديداً لكنه تحدث عن إحدى الصفات المميزة التي يتمتع بها القرآن الكريم و هي " ثبات الصيغة اللغوية و مرونة المحتوى " و هي إحدى صور إعجاز القرآن فنجد أن النص نفسه من الممكن أن يتبدل معناه بتبدل الزمان و المكان و الظروف فما يحلله نص معين في زمن قد يحرمه النص ذاته في فترة زمنية أخرى . و هذه الخاصة لا تقتصر على التشريعات بل نجدها كذلك في سرد بعض القصص . فقصة أصحاب الكهف على سبيل المثال جاءت في البداية بموعظة دينية و مع تقدم الزمن أثمرت القصة ذاتها عن ظواهر علمية و طبية ثم أظهرت الدراسات الأخيرة على أن قصة الكهف تتضمن حقائق و معلومات دقيقة في علم الفلك و تحديداً الثقوب السوداء .
إن فهم خاصة " ثبات النص و مرونة المحتوى " يشير إلى أن القرآن الكريم يتحقق فيه مفهوما " الرمزية " و " النسبية " . و النسبية هي محور حديثنا هنا و هي ما تجعل القرآن صالحاً لكل زمان و مكان فكثيراً ما نردد عبارة أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان و مكان لكننا في معظم الأحيان نقول ذلك عن غير قناعة نظراً لأن الدين قد أصبح - للأسف - مجرد تراث . و بفهمنا لخاصة النسبية التي يتوفر عليها القرآن نستطيع عندها أن نقول بجرأة و بثقة أن القرآن فعلاً صالح لكل زمان و مكان .
و بالعودة إلى موضوعنا فإن " النسبية " تضع تفسيراً مقنعاً جداً لقضية تعدد الزوجات . فتعدد الزوجات عندما تمت إباحته أول الأمر جاءت هذه الإباحة كإجراء تخفيضي مؤقت . إذ يقول المثل " إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع " و عندما جاء الإسلام بإباحة اتخاذ أربع زوجات فإن المتعارف عليه بين أقوام العرب كان اتخاذ عدد كبير و غير محدود من الزوجات . و عندما سمح الإسلام بأربعة فهو كالطبيب الذي يسمح لمريضه المدمن على التدخين بأن يدخن أربعة سجائر في اليوم " كإجراء مؤقت لمعالجة المشكلة " .
لكن هذه " النسبية " بكل تأكيد لا تقتصر على ذلك . فهي تقوم على عدة معايير منها الزمان و المكان و الظروف. و نفهم من ذلك أن اتخاذ أكثر من زوجة واحدة لم يكن أبداً شيئاً محبباً و مرغوباً في الإسلام و كان دائماً خرقاً لشرط العدل الأساسي جداً في هذه القضية . هذا الخرق الذي تتعاظم قيمته في مجتمع متحضر . لكن الله أجاز هذا الخرق - أو تساهل - في حالات استثنائية تتعلق بالزمان و المكان و الظروف .
لن أقول بتحريم قضية تعدد الزوجات اليوم فلست في موقع يخولني للتحليل و التحريم و لأن القضية معقدة و تختلف من حالة إلى أخرى و من ظرف إلى آخر . لكن ما أريد الوصول إليه هو أن قضية تعدد الزوجات مرفوضة منطقياً - و هو منطق يستند إلى نصوص مقدسة - في أي مجتمع متحضر ( إلا ) في حالات اضطرارية و ظروف استثنائية. و ما أنا واثق منه تماماً أنه قد آن الأوان لينسى الرجل الشرقي مقولة " الشرع بيحلل لي أربعة " !!