جلس طفل في حوالي الحادية عشر من عمره على عتبة داره الريفي، الكائن في إحدى القرى النائية، وأخذ ينظر بنظرات ملؤها الاهتمام على أقرانه من أبناء القرية وهم يلعبون الكرة باندفاع كبير، حتى ليظن الناظر إليهم أن التعب لا يعرف طريقه لأجسادهم المفعمة بالنشاط والحيوية، كانت مقلتا هذا الطفل تتابعان الكرة أينما ذهبت، وكان يقف فجأة كلما اقتربت الكرة من مرمى أحد الفريقين، ويهتف هامساً بالذي معه الكرة أن: هيا سددها، بسرعة، ابتعد عن الحارس...
وعند انتهاء الشوط الأول، جلس يلتقط أنفاسه المتعبة بعد هذا الجهد الذي لم يعد جسده يحتمله مؤخراً، وأخذ يفكر في نفسه، كم يريد أن يلعب معهم وخاصة أنه.....
السلام عليكم، نظر الطفل فإذا برجل واقف أمامه ، من أين ظهر فجأة هذا الرجل الغريب الذي يتشح بالسواد، وكأنه نزل من السماء أو نبت من الأرض، تساءل الطفل بينه وبين نفسه، ولكنه رد بعفوية:
وعليك السلام يا عم، أهلاً وسهلاً.
سأله الرجل: ما اسمك يا بني؟ قال الطفل: إسمي عدي أو عمر ويمكنك أن تناديني نورس أيضاً، ومن أنت يا عم؟
قال الرجل: أنا مثلك لدي عدة أسماء، منها المرض الخبيث، أو السرطان، وهناك من يطلق علي لشناعتي لقب (هداك المرض) وكأن ذكر اسمي فأل نحس على الجميع.
بهت الطفل لما عرف هوية زائره، وازداد وجهه شحوباً، ثم تمالك نفسه وقال:
لم أكن أعرف أنه باستطاعتك التجسد بهيئة إنسان، فضلاً عن محادثة الآخرين.
فأجاب الرجل: هذا لا يهم، أنا فقط جئت لأطمئن عليك.
فأجاب الطفل باستنكار، وقد ارتفعت وتيرة صوته: تطمئن علي؟!! بعد ما فعلته بي، انظر إلى حالي كم هو مزر، ثم خلع القبعة التي كان يغطي بها رأسه وأشار إلى البقية الباقية من شعره المتساقط، أيعجبك حالي هكذا، ثم رفع أكمام قميصه ليكشف عن يديه النحيلتين المعروقتين، انظر إلى ما اقترفت يداك.
أجاب الرجل بهدوء: رويدك بني، فالانفعال لا يناسب وضعك الصحي.
أشاح الطفل بوجهه وعيناه اغرورقتا بالدموع ثم قال:
وكأن حالي يهمك، منذ متى صار الجلاد يهتم بالضحية. فردّ الرجل: وهل تعتقد بأنني فعلت بك هذا لعداوة شخصية بيني وبينك؟ أو أن بيننا ثأر قديم، إنما هي سنة الحياة، فالبلاء حين ينزل لا يعرف كبيراً أو صغيراً، وعسى أن يكون في مرضك هذا الخير الكثير فيما بعد.
قال الطفل بغيظ: لا خير يرجى من أمثالك.
ثم قطع حديثهما لحظات صمت تخللها أصوات الأطفال من بعيد وهم يعاودون اللعب، مثيرين في الأفق زوبعة كبيرة من التراب، ثم قال الطفل:
لا يمكن لك أن تتخيل كم كنت أحب اللعب بالكرة قبل أن أمرض، كنت أرى في أحلامي أنني صرت من أبطال كرة القدم، ولكن أنّى لي أن أصبح بطلاً وقد خارت قواي، وقدماي تحملان جسمي بصعوبة، لقد انتزعتني انتزاعاً من مقاعد الدراسة التي هي بالنسبة لكل طفل أحلى أيامه يقضيها بين شقاوة الطفولة والتعرف على أصدقاء جدد، ورميتني على أسرة المستشفيات، كنت أمسك بالقلم صرت أمسك بعمود بارد علق عليه دواء أمقته أيما مقت، وأعتقد بأنه من الصعب على أمثالك أن يدركوا كم هو موقف مهول بالنسبة لطفل في عمري أن يرى أحد الأطفال يموت أمامه بعد طول معاناة معك، هل لك أن تتخيل مشاعري في تلك اللحظات؟
كنت أشعر بالضياع، وكأنني في كابوس وأود لو أستيقظ منه فأجد نفسي على فراشي، وبين أهلي، كنت أتمنى في تلك اللحظات أن يكون أبي وأمي معي فأدفن رأسي بينهما وأتشبث بثيابهما ولا أتركهما حتى نعود للبيت.
كان الرجل واجماً طوال الحديث ينظر إلى الأفق ولم ينبس ببنت شفة حتى أنهى الطفل كلامه.
ثم قال: يبدو أن لديك طلاقة لسان تسبق بها أقرانك.
فرد الطفل: هذا مما تعلمته من تجربتي القاسية معك.
فرد الرجل بسرعة وكأنه ظفر بالإجابة التي يريدها: وتقول أنك لا ترجو خيراً مني، انظر إلى نفسك وقد صقلتك التجربة يا بني.
فأجاب الطفل: إني لأتمنى أن أكون أدنى من أقراني تفكيراً على أن أعاني لحظة واحدة من الألم، إن الأطفال ليملؤون الدنيا صياحاً من إبرة واحدة، فما بالك بالإبر جعلت من جسدي مرتعاً لها تغدو عليه صباح مساء، ثم ما الفائدة أن أكون طليق اللسان إذا كنت سأموت في عامي هذا أو العام المقبل على أبعد تقدير، هل سيكتب على شاهدة قبري أنني كنت طليق اللسان، أم أن هذا سيكون عزاء لأهلي، ومخففاً لحزنهم؟
هل رأيت أماً منكوبة تبكي بحرقة وقد احتضنها زوجها الملتاع، الذي لم يستوعب عقله بعد أنهما قد فقدا فلذة كبدهما. إنه لأسهل عليهما أن يفقدا عينيهما على أن يفقدا ابناً واحداً، ثم إنك.....
حبيبي مع من تتحدث؟ قالت أم الطفل وهي تخرج من باب البيت.
قال لها: أتحدث مع... والتفت حيث كان الرجل فوجده اختفى فجأة كما ظهر، فأكمل وكأنه استيقظ من حلم: لا أحد كنت فقط أشجع أصدقائي من بعيد، جلست أمه إلى جانبه واحتضنته بحب كبير،ثم نظرت إلى عينيه وقالت متفاجئة: هل كنت تبكي حبيبي؟
فمسح عينيه وقال وهو يبتسم: لا إنما هو الغبار قد دخل إلى عيني.
فقالت له والسعادة تعلو وجهها: قم فالطعام جاهز، أعددت لك طبقك المفضل، أرز وبازلاء وأعددت إلى جانبه حساء العدس، وأريدك أن تأكل منه جيدا حتى يقوى جسدك فالطبيب قال أنه ابتداء من الأسبوع المقبل بإمكانك أن تعود إلى المدرسة.
تهللت أسارير الطفل وقال صائحاً: حقاً يا أمي؟ هل سأعود إلى المدرسة؟ فردت عليه أمه نعم بني وربما قريباً أيضاً ستجد نفسك تلعب مع أصدقائك بالكرة كما كنت في السابق.
يا سلام!! قالها الطفل بصوت عال ثم رمى نفسه على أمه معانقاً إياها وقال: أنا أحبك أمي، أحبك كثيرأ، ولن أسمح للمرض أو لغيره أن يحرمني منك. ثم رفع وكأنه تذكر شيئاً ثم قال؟ وماذا عن الدواء والمستشفى؟ ، فأجابت الأم: قال الطبيب بأنه لا حاجة الآن للمستشفى، ولكن علينا بين الحين والآخر أن نقوم ببعض الفحوص لنتأكد من أن كل الأمور على ما يرام، وأتمنى على الله ألا يحوجنا لها مرة أخرى.
جاءهم صوت من داخل البيت: لقد برد الطعام ألا تريدون أن تأكلوا، لقد بلغ مني الجوع كل مبلغ. ضحكت الأم وقالت: هذا أبوك لا يعرف أحداً عندما يجوع، هيا لنأكل قبل أن يبتلع الحساء كله فلا يبقي لنا شيئاً، ثم دخلت الأم، وتبعها الابن الذي ألقى نظرة أخيرة ليتأكد من رحيل الرجل، ثم دخل مسرعاً خلف أمه وأغلق الباب بإحكام حتى يشعر بالاطمئنان، لأن الغرباء غير مسموح لهم بدخول حرمه الآمن، وركض مسرعاً إلى المائدة وجلس قرب أبيه الذي يبدو أنه لم ينتظر أحداً، وبدأ الطفل بتناول طعامه بشهية وعيناه معلقتان على لباس المدرسة المعلق على الحائط.