لم أكن أعلم أن الأمريكيين يأوون باكراً إلى منازلهم، حتى وجدت نفسي وحيداً في إحدى ضواحي لوس أنجيليس (وتدعى باسيدينا)، أبحث عن وسيلة مواصلات تعيدني إلى الفندق، شعرت بالخوف والوحدة الشديدين، رغم أن الساعة كانت حوالي التاسعة والنصف مساء، إلا أن الشارع خلا من المارة؛ وقفت أنتظر بفارغ الصبر مرور سيارة أجرة بلا جدوى، فقررت أن أغير مكاني عسى أن أجد موقف باص، أو علامة ممكن أن ترشدني إلى طريقي، ولكن النتيجة كانت أنني كلما سرت أكثر ازداد خوفي واضطرابي، فأنا لا أعرف أحداً هنا، وأصدقائي في الفندق لن يستطيعوا مساعدتي لعدم معرفتهم بمكاني
وبينما أنا أسير إذ وجدت أمامي محطة وقود، توجهت إليها علّي أجد فيها من يساعدني، فوجدت عند المحطة محلاً قد أغلق أبوابه وأبقى نافذة ضيقة جداً يمكن من خلالها التحدث مع صاحب المحل دونما إمكانية تعريضه للتهديد أو العنف، فأخبرته أنني بحاجة إلى أن أعود إلى الفندق وأنني لست من هذه المنطقة، فما كان منه إلا أن اتصل بإحدى سيارات الأجرة وأخبر سائقها بموقع المحطة، والذي كان يحتاج إلى نصف ساعة ليصل، فشكرت صاحب المحل ووقفت جانباً.
جاء رجل ليشتري علبة سجائر، فقبض صاحب المحل منه المبلغ من خلال الفتحة الصغيرة، ثم فتح درجاً معدنياً وأسقط فيه العلبة ثم دفع الدرج من ناحيته ليصبح من ناحية الزبون، وتساءلت بيني وبين نفسي: ما هي درجة العنف التي وصل إليها الشعب الذي يعيش في أقوى دولة بالعالم حتى احتاج هذا البائع لكل هذه الحماية؟ وتذكرت حين كنت أتمشى في منطقة الشيخ محيّ الدين حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل دون أن أشعر بأدنى تهديد، وكنت أجد بعض محال البقالة ما تزال مفتوحة، دونما حماية تذكر.
سألني البائع: من أين أنت، فقلت له أنا من سوريا، فنظر لي باهتمام، ثم سألني: أين من سوريا؟ فقلت له أنني من دمشق: فقل لي بالعربية: أنا من حلب، وتحديداً من أرمن حلب، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ أخبرته أنني جئت إلى هنا لأطلع على المراكز التي تُعنى بالأطفال المصابين بالسرطان؛ صمت قليلاً ثم سألني بحسرة: ما هي أخبار سوريا؟ فأنا لم أرها منذ خمسة وثلاثين عاماً، منذ هاجرت إلى هنا مع زوجتي، ولا أفكر بالعودة، حتى أن أولادي كبروا وترعرعوا في هذه البلاد؛ وأخذنا حديث عن بلدنا الحبيب إلى أن قطع هذا الحديث قدوم سيارة نزل منها رجل يود شراء مشروب غازيّ، قلت للرجل: لكنتك ليست أمريكية وعلى الأغلب عربية، فقال لي أنه من لبنان، ثم أنهى عملية الشراء بسرعة ورحل.
وقفت أنتظر قدوم سيارة الأجرة فإذا بفتاة يبدو عليها القلق تطلب من البائع أن يعطيها نوعاً محدداً من حبوب الدواء، ولكن البائع رفض لأن الفتاة لا تملك وصفة طبية، ولمحت بقرب الفتاة شاباً يقف بطريقة لا يراه فيها البائع، تمعنت في وجه الشاب فوجدت هالات سوداء حول عينيه، ويبدو عليه الوهن والاضطراب، وبربط بسيط جداً تبين لي أن هذه الفتاة إنما طلبت حبوباً فيها مواد مخدرة لحبيبها، الذي أعياه إدمانه؛ حاولت الفتاة مع البائع بإلحاح دونما جدوى، فرحلت مع الشاب خائبين.
حمدت الله وشكرته لأنني لا أصادف مثل هذه المخلوقات في بلدي، وقلت الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى كثيراً من عباده.
عاود البائع الحلبي استفساره عن أسعار العقارات، وتكاليف المعيشة، وما إلى ذلك من أحوال بلده، إلى أن قطع حديثنا للمرة الثالثة أو الرابعة قدوم سيارة رياضية سوداء، نزلت منها امرأة حسناء فاحمة الشعر، أنيقة الملبس، أرادت أن تستدل على مكان مطعم قريب، وعندما سمعتني أتحدث بالعربية مع البائع، سألتني بدهشة ممزوجة بالفرح: أنت عربي؟ من أين؟ فأخبرتها أنني من سوريا، ارتسمت البهجة على محياها، ثم قالت لي، أنا من المغرب، اسمي طاهرة (ولكنها لفظت اسمها كما لو كان طَهرة)، ولدي حفلة يجب أن أغني فيها، ولكنني تائهة عن مكان المطعم، فما كان من البائع إلا أن أرشدها لمكانه؛ قالت لي وهي ترحل: سعدت بلقائك كثيراً يا .... قلت لها: عادل، فقالت: سررت بلقائك عادل، فأنا أحب السوريين، وركبت سيارتها ورحلت مسرعة لتلحق بحفلتها؛ قلت لنفسي: طَهرة لديها وصلة غنائية؟؟؟؟
طلبت من البائع حبوباً لألم في رأسي فأعطنيها ورفض أن يأخذ ثمنها، وبعد قليل وصلت سيارة الأجرة التي تأخرت قليلاً؛ شكرت البائع كثيراً، ثم ركبت السيارة عائداً إلى الفندق، بعد أن أمضيت قرابة الساعة أمام المحطة.
هذه الحادثة كانت تحديداً في شهر تشرين الأول من عام 2010، ورغم غرابتها ككل وكثرة المفارقات فيها، إلا أن ما يثير حزني الآن كلما تذكرت الحادثة هو السؤال: ما هي أخبار سوريا؟