منذ طفولته كان يحلم أن يصل لمركز اجتماعي مرموق، أن يحظى باحترام وحفاوة من حوله، أن يمتثل له الناس قياماً لدى رؤيته وأن يلثموا يديه، ولكي يصل إلى ما كان يحلم به، توجب عليه أن يختار درباً من دروب كثيرة تؤدي لتحقيق حلمه، والتي أسهلها درب الدين.
لما للدين من قدسية ومهابة في مجتمعنا، وبذل الكثير من الجهود، ولم يترك شيخا ولا عالماً إلا ولازمه كي يتعلم كيف يجذب الناس إليه، كان يتابع كل التفاصيل مهما صغرت ويدونها، حلمه بالشهرة أعطاه اندفاعاً كبيرة وطاقة تكاد لا تنفد، وذاكرة قوية قلما خانته، ولقد أتقن الكثير من الأمور منها تصنّع الخشوع أمام الآخرين، والتباكي أثناء تلاوة القرآن، ودأب على الصلوات في المساجد، كي يشهد له الناس بالإيمان، بالمختصر سلك هذا السبيل ووصل بالنهاية إلى مراده.
فلقد تم تكليفه بالخطابة في أحد مساجد دمشق، ورغم أن هذا المسجد ليس بالمسجد الكبير ولكنه من أفضل الخيارات بالنسبة له، فهو في نفس الحي الذي يقطنه، بالإضافة إلى انه سعى لتولي خطابة هذا المسجد باذلاً الغالي والرخيص، وطرق باب العديد من الشخصيات ذات النفوذ كي يصل إلى مبتغاه، ناسياً أن باب المولى عز وجل هو الباب الوحيد الذي لا يذلّ طارقه، وبدأ بتأسيس مشروعه الذي لطالما رآه في حلمه، كان يرى في نومه أنه يدخل إلى المسجد فينظر له رواد المسجد بالإكبار والإجلال لعظمة هذا العالِم، كان يرى في عيونهم الانبهار، يصعد المنبر والجميع جالسون ينتظرون أن يتحفهم بنفيس الكلام، وبعدما ينزل من المنبر وتنتهي الصلاة التي حاول أن يظهر فيها كل خشوع، يهرع الناس إليه كي يلثموا يديه بالقبلات، وهو يتظاهر بالتواضع والخجل، بينما قلبه يرقص فرحاً ونشوة من الشعور بالأهمية والعظمة.
ولكن يا أعزائي القراء، الحلم شيء والواقع شيء آخر، حيث أنني كنت أحضر أحياناً لأداء صلاة المغرب أو العشاء في هذا المسجد فأدهش بأنه بنى مكتبان كبيران داخله، واحد للشيخ والآخر لابنه (رغم أن المسجد صغير نوعاً ما كما أسلفت)، وكنت أعجب لكثرة الألقاب التي كان يطلقها على نفسه (مكتب سماحة فضيلة الشيخ الدكتور........).
وتحول مشروعه الصغير إلى جعل هذا المسجد وكأنه شيئاً خاصاً به، وكان يحاول إدخال جميع التحسينات على المسجد للفت الأنظار، من تدفئة وتكييف، ومقاعد لكبار السن، ونباتات زينة، ورخام، وقناطر وغيرها من الأمور التي وصلت أحياناً إلى حد المبالغة، حتى أنني توقعت يوماً أن أجد براداً للمرطبات، ومنطقة خاصة للمدخنين، ولكن الذي يسلك الطريق الخاطئ ليصل إلى العزة أذله الله، فلقد نسي في غمرة أفعاله أن الله يذل من سعى للعزة بالنفاق، فقام بمجموعة من الأخطاء الفادحة التي كشفت للناس سوء نواياه، وخبث فكره.
وأذكر منها أنه عندما أراد لابنه البكر تسلم إمامة المسجد تصنع مشاجرة مع إمام المسجد، وقام ولداه بضربه وطرده من المسجد وكان هذا على أعين الأشهاد، بالإضافة إلى أنه كان يدخل المسجد وولديه على يمينه وشماله وكأنما هما حرسه الشخص، وقد علت وجوههم قترة، عيونهم عابسة لا أدري لماذا، وهو يمشي في خيلاء، يصعد إلى المنبر ويبدأ بالتحدث بأتفه ما يكون من الحديث، مستخفاً بعقول الحاضرين( والذين هم غالباً من كبار السن الذين لا يقوون على المسير لمسجد أبعد، أو عابري السبيل الذين لا يعرفون شيئاً عن خطبة الجمعة لهذا المسجد)
ولم أكن أعجب عندما كنت أصل متأخراً أحياناً وأستطيع الجلوس في الصفوف الأولى لقلة المصلين، وكان يطيل الخطبة لكثرة ما لديه من علوم وفهم ودراية (حفظه الله)، وفي نهاية الخطبة يقوم ابنه ليذكّر المصلين فيقول: من أراد أن يحصل على خطبة سماحة فضيلة الشيخ الدكتور ...... مسجلّة فليراجعنا بعد انتهاء الصلاة، وكنت سأعجب لو أن أحداً ذهب ليحصل على شريط من الكلام الغير مترابط، والذي يصلح لكي يكون مسابقة للخطبة المتقاطعة (على مبدأ الكلمات المتقاطعة)..
ومرة كان ابنه يقود السيارة الفارهة (المفيمة)، فما كان منه إلا أن اصطدم بالسيارة التي أمامه، فخرج وهو يسب ويلعن، ولما رأى أن صاحب السيارة الأخرى لم يحترم جناب مقامه، قال له: سوف ترى، ألا تعلم من أنا؟ أنا مدعوم من قبل .........، وعلى أعين الأشهاد أيضاً، فما كان من .......... إلا أنه قام بتركيب أجنحة لهذا الشيخ وابنيه وحلقوا خارج المسجد، وتم إزالة رموز هذا الشيخ والمتمثلة بمكتبه ومكتب ابنه، وتنفّس الناس الصعداء، وتم استبداله بخطيب يحترم نفسه، وعادت الأمور لمجاريها..
كانت هذه الحادثة بمثابة الصدمة لهذا الشخص، أين العيون المنبهرة؟ أين مركزه الاجتماعي المرموق؟ كيف سينظر في وجوه من حوله؟ ماذا سيقول لهم؟ كان يرى الشماتة في عيون أقرب جيرانه إليه، لما عرفوا من نفاقه ودجله، ورغم أنه غلّق الأبواب على نفسه واعتكف في بيته، إلا أن الشائعات والتعليقات لا تردّها الأبواب، فكانت تصل إلى مسمعه، وكانت جارحة ومؤلمة، منها ما قاله أحد معارفه: هذه نهاية كل وصولي، أو سبحان من أراحنا من رؤيته...... فقرر أنه لن يستسلم أبداً، فعاد إلى تقبيل الأيادي والتدخل على أصحاب النفوذ مرة أخرى كي يسمحوا له بالعودة للخطابة، وبعد أن قدم القرابين بين أيديهم، تمت الموافقة على عودته.
شعرت بالسعادة لأنني وأخيراً سأستطيع الصلاة في المسجد الذي هو الأقرب إلى منزلي، وذلك بعد طول انقطاع عنه، حيث كنت أذهب لمساجد أخرى، وفي أحد الجمع كنت جالسا أنتظر الخطيب كي يأتي، فصعقت لدى رؤيته يدخل مرة أخرى، وكان يبتسم بطريقة مغيظة في وجوه الناس وكأن شيئاً لم يحدث، وطبعا ابنه معه يمشي وقد انتفخت أوداجهما، وشعرت بفيض كبير من المشاعر السلبية، فما كان مني إلا أني ودون خجل منه قمت وارتديت حذائي (أعزكم الله)، ثم ذهبت إلى مسجد آخر.
قام رواد المسجد بتوقيع عريضة رفض لهذا الخطيب، وكلهم أمل أن يتخلصوا منه مرة أخرى، ولكنه استمر خطيباً بهم رغم أنفهم، ولا أفهم كيف يكون ذلك، فأهم فكرة في الوعظ والإرشاد أن يتقبل الناس واعظهم، كيف يقبل على نفسه أن يكون واعظاً لمن لا يريده؟
ولكن يبدو أن هاوية العجب بالنفس ليس لها قرار، والسقوط فيها في البداية جميل ورائع، ولكن العبرة بخواتيم الأمور، وشتان بين علماء أجلّاء متواضعين لله، منهم من سمعنا به ومنهم من لم نسمع به لكثرة الإخلاص وعدم مراءاة الآخرين، والذين كما قال الله تعالى: سيماهم في وجوههم، وبين هذا المدعي الذي يصرّ على استغلال الدين ليروي ظمأه للعظمة والمكانة الاجتماعية المرموقة، ولكنني أنتظر نهاية سقوطه، فالسقوط ينتهي عندما يجد المرء نفسه في القاع، ويندم حيث لا ينفع الندم.