يحكى أنه كان يوجد ملك أعرج ويرى بعين واحدة .
وفي أحد الأيام ... دعا هذا الملك أشهر وأمهر الرسامين ليرسموا له صورة شخصية , بشرط ألا تظهر عيوبه في هذه الصورة . فرفض الرسامون جميعهم رسم هذه الصورة .... فكيف سيرسمون الملك بعينين وهو لايملك
سوى عين واحدة ؟ وكيف يصورونه بقدمين سليمتين وهو أعرج ؟
ولكن وسط هذا الرفض الجماعي , قبل أحد الفنانين رسم الصورة , وبالفعل رسم صورة جميلة وفي غاية الروعة كيف ؟؟؟
تصور الملك ممسكاً ببندقية الصيد , بالطبع كان يغمض إحدى عينيه ويحني قدمه العرجاء وهكذا رسم صورة الملك بلا عيوب وبكل بساطة
قصة الملك هذه جعلتني أتساءل : لماذا نحن والحقيقة .... أعداء ؟
لماذا نخوض معها حرباً باردة ونجعلها خصماً لنا في أغلب الأحيان ؟
لماذا نضع أصابعنا في آذاننا كي لا نسمع صوتها ؟ ونصرخ في وجهها ونملي عليها قائمة التعديلات التي تناسب قناعاتنا وتوافق تلافيف أدمغتنا ؟
ألأننا نعتبر صوتها مزعج ووجهها قبيح ويحتاج دوماً إلى قليل من المكياج ؟
إذا كان الأمر كذلك , فياليتنا نلتمس العذر لبعضنا البعض مادام الهدف من اجراء عمليات التجميل لوجه الحقيقة , اخفاء العيوب وطمس معالمها من أجل صورة أجمل وأفضل
لكن المشكلة المتفاقمة هي أننا اعتدنا هذه العداوة المزمنة مع الحقيقة حتى تغلغلت في قاع اللاوعي عندنا .... وكثيراً ما نشهر سلاحنا في وجهها حتى لو كان رائعاً فاتنا , فتجد البعض يخفي حقيقة نجاحه أو ثرائه أو حتى سعادته في حياته الزوجية , خوفاً من الغيرة أو من شر حاسد إذا حسد , أو لغاية في نفس يعقوب
أبتسم في هذه اللحظة , لأني أشعر بروح أفلاطون تحوم حولي , وتلحّ علي بمكر ودهاء أن أذكر لكم مقولته هذه : لو صيغت الحقيقة امرأة لأحبها الناس جميعاً
لكن الحقيقة التي نمر بها ونحن عنها معرضين , والتي هي سبب تشويه الكثير من علاقات الناس ببعضهم وخلق الخلافات والمشاحنات فيما بينهم , هي مطاردتنا الدائمة للحقيقة التي تتعلق بالآخرين وتربصنا بها كقناص يشد الاصبع على الزناد , وسعينا المستميت للبحث عنها بالسراج والفتيلة من أجل معرفة وجهها الحقيقي بدون أي رتوش , ولا نكتفي بهذا ولا يشفى غليلنا إلا إذا أذعنا هذا النبأ العظيم الذي قاتلنا من أجل معرفته على كل أذن عبر ميكرفونات التشهير , عندها فقط يهدأ بالنا ونستريح استراحة المحارب وكأننا فتحنا الأندلس من جديد
هذا أكثر ما أمقته , أن تكون الحقيقة حلوة إذا كانت لنا .. مرّة إذا كانت علينا . آه منا نحن البشر , كم الدنيا حولنا رائعة .... وفينا مروّعة
كلنا في هذه الدنيا ملوك نملك زمام أنفسنا ..... وكلنا رسامون نرسم لوحات لنا في أذهان الآخرين ونرسم للآخرين لوحات في أذهاننا ,, وما أشطرنا في اقامة معارض ومعارض للرسم . لكنّ هناك حقيقة يجب ألا نشغل أنفسنا إلا بها ,سألخصها لكم في حكاية صغيرة أحبها
كان يا ما كان في قديم الزمان , كان هناك دمية من ملح أرادت أن تكتشف العالم فبدأت تسافر في أصقاعه , سافرت طويلاً حتى وصلت الى المحيط فنظرت الى هذا الأزرق اللا متناهي
وصرخت بتعجب : يا الله كم هو رائع , أريد ان أعرف حقيقته وماهو ؟ وبدأت تخوض في مياهه وكلما تعمقت به ذابت أكثر حتى لم يبق منها إلا ذرة صغيرة , فصرخت : آه الآن عرفت حقيقتي ومن أكون
تلك هي الحقيقة الساطعة المشرقة التي كثيراً ما تغرب عن بالنا , أننا كهذه الدمية من الملح , نخوض في مياه محيط الحياة الدنيا ,,, وتذيبنا أيامها رويداً رويداً ,, حتى نتلاشى ونصبح كالعدم
ولايبقى منا .... إلا العمل الصالح , فلنشغل أنفسنا بتلك الحقيقة ولنعمل من أجلها سواء أحببناها أم كرهناها