في قريةٍ من تلك القرى البسيطة في بلدنا الحبيب عاش أحمد مدلّلاً منعّماً لوالدين رُزِقا به بعد صبرٍ طويل, وحين اشتد عوده, رأى والداه ضرورة تزويجه, وبدءا بالبحث له عن زوجةٍ مناسبة.
كان لوالد أحمد قريبٌ... له من الزوجات اثنتان, وكانت له من زوجته الأولى فتاةٌ جميلةٌ, واسمها سلمى, وبما أنها إبنة الزوجة الأولى, فهي الأقل حظاً في الدلال والنعيم, فقد قاست وأخوتها وأمها شتّى أنواع العذاب والحرمان على يديّ والدها وزوجته الجديدة.
قرر والد أحمد خطبة سلمى لولده, لعلّ الله يجزيه خيراً بذلك, وبالفعل تمت الخطبة, وفرِح أحمد وسلمى كثيراً على الرغم من عدم معرفة كلٍ منهما بالآخر.
صار أحمد يستمع إلى أغاني أم كلثوم, وبات يعاني جميع أصناف عذابات الحب, ولم يكن حُبُّ سلمى بأحسن حالٍ من أحمد, فقد تعودت سهر الليالي وعدّ النجوم, وأحست أن الدنيا أجمل مما تصورت أو حلِمت, ورأت بحبيبها أحمد المخلص والمنجّي من عذاباتها المتلاحقة في منزل أهلِها.
وتم الزواج بسرعة, فلا يسمح للخطبة بأن تطول في هكذا مجتمع, وعاش أحمد وسلمى أياماً كالخيال, فلم يكتفي والده ببناء ملحق له فوق داره بل قام بتسجيل كامل البيت باسم أبنه الوحيد, وقامت والدته يومياً بمده بأطيب أصناف الطعام, فقد أحاط والدا أحمد العائلة الجديدة بشتى أنواع الدلال.
ومرت الأيام والأشهر كلمح البصر, ورزق أحمد وسلمى بصبيين جميلين, وتفنن والدا أحمد في دلال الولدين, وازداد تعلق الحبيبين -أحمد وسلمى- ببعضهما, وأحسا أنهما سكنا الجنة قبل أوانها.
وكما هي العادة, وكما هي الدنيا, زار أحمد ضيفٌ ثقيل هو السرطان... فقد أصيب بسرطان الدم, والمرض انتشر بما فيه الكفاية, وللحد الذي يبقيه حياً لستة أشهرٍ فقط.
قام والد أحمد بجولةٍ مع ابنه على كافةِ أنواع الأطباء, وزار الكثير من المستشفيات, وكما هو معلوم, فإن تلك الجولات كفيلة بجعله فقيراً, فقد باع معظم أملاكه محاولاً إنقاذ أغلى ما يملك.
ويأبى ضيف أحمد الخنوع أو الاستسلام, ويزداد إصراراً وتوغلاً, ويبدأ بتعطيل الأعضاء واحداً تلو الآخر مستعيناً بأدوية الأطباء التي لا يختلف أذاها وضررها عمّا يقوم به.
ويموت أحمد بعد عذاب طويل, وبعد أن حفر في قلبَي أبيه وأمه الكثير من الأسى والحسرة, ولكنهما أدركا أن حبيبهما قد ترك لهما زوجته وولديه, وأن عليهما التفاني في إسعادهم كرمى لذكرى الحبيب, وبالفعل ازدادت محبة وعناية الوالدين بسلمى وأولادها.
ولكن سلمى بعد أن أفاقت من الصدمة وجدت نفسها وحيدة وبائسة, فأخبرتها والدتها في إحدى زياراتها بضرورة العودة والسُكنى معها, وأخبرتها بأن عليها أن لا تيأس من الحياة, فهي جميلة ومازالت صغيرة, ومن الممكن تزويجها مرةً أخرى.
قلبت سلمى الفكرة في عقلها, ووجدت فيها الحل المناسب لنسيان الأسى, وبالفعل تحدثت مع أم أحمد وأخبرتها بقرارها الإنتقال إلى بيت أهلها... لم تتفاجئ أم أحمد ولكنها تمنت عليها أن تبقي لها الولدين لتقوم بتربيتهما, فلم توافق سلمى وانفجرت بكاءاً كونها غير قادرة على العيش بدون الولدين.
تفاجأت سلمى بفرح أمها حين أخبرتها بما جرى, فقد أكدت لها أمها أنها إن كانت ترغب بالزواج ثانيةً, فعليها إبقاء الولدين عند جدّيهما, فذلك أفضل للحصول على الزيجة المناسبة, فانتقلت سلمى وتركت الولدين والدمع يملأ عينيها...
وبعد أيام قامت أم سلمى بزيارة الجدين وأخبرتهما بضرورة إعطاء سلمى كامل حقوقها من إرث أحمد بالإضافة إلى باقي مستحقات مؤخر المهر... في هذه المرة تفاجئ الجدين, فسلمى تطالبهم بحصتها في البيت –كونه بإسم المرحوم-, وهم لا يملكون الكثير بعد أن باعوا أغلب ممتلكاتهم في محاولة إنقاذ أحمد... فما كان منهما إلا أن استدانا وسددا لسلمى كامل مستحقاتها.
وجاء العريس المناسب لسلمى, رجلٌ ثري يبحث عن زيجةٍ ثانية بعد أن أنجبت له زوجته خمسة بنات على التوالي, فوجد في سلمى الفرصة المناسبة كونها قد أنجبت صبيين من قبل.
قبل مراسم الزواج اخبر الزوج الجديد أم سلمى بعدم رغبته في رؤية أولاد سلمى من زوجها القديم, واشترط عليها أن تمتنع سلمى عن زيارتهم, فوافقت الأم بعد أن رأت الكم الهائل من الذهب الذي دخل بيتهم المتواضع... وكان الزواج وعادت سلمى إلى جنة الدلال والنعيم.
مضى الآن ما يقارب خمسة عشر عاماً منذ وفاة أحمد, وهاهو الموت يزور الجدة أم أحمد ويخطف روحها... جاءت سلمى إلى العزاء, وهي ممتلئة بأساور وأطواق الذهب, ولكن بريقها الذهبي لم يشفع لها عند ولديها الذين رفضوا مقابلتها, فهم لا يعترفون سوى بأمٍ واحدة... جدتهم التي ماتت.
عذراً من النساء... ولكن هذا ما حصل... وعلينا -لنكون واقعيين- أن نبدّل الجملة المشهورة لتصبح...""قد لا تكون الجنة تحت أقدام بعض الأمهات""...