صدفة , وقعت تحت يدي قائمة " أغنى خمسون رجل في العالم " , فاسترعت انتباهي ظاهرة عدد الأثرياء العرب فيها
فهم و الأمريكان يستأثرون بأغلبية القائمة . و إذا كان تواجد الأثرياء الأمريكان فيها له ما يبرره باعتبار أن الولايات المتحدة تشكل أكبر اقتصاد في العالم , و فيها ينتج ما يقارب 20 بالمائة من الإنتاج الصناعي العالمي , فما هو سبب الوجود الكثيف للعرب فيها , علماً إن الناتج القومي لكل الدول العربية مجتمعة لا يتجاوز الناتج القومي لدولة أوربية متوسطة كاسبانيا .بينما ضمن القائمة نفسها من النادر أن تجد مليار ديراً أوربياً .
و هنا عدت بذاكرتي إلى فرنسا حيث درست , و تذكرت نقاشاً دار مع أحد الأطباء الفرنسيين , عندما شرح لي سبب عدم رغبته في أخذ المزيد من المناوبات في المشفى رغم أنها مأجورة بشكل مجز للغاية
فقال عندها : كدخل سنوي كلي , سأصبح ضمن شريحة أعلى من دافعي الضرائب . وكان هذا أول درس لي في أهمية الضريبة لتوزيع العمل , و أهميتها الاقتصادية . فالضريبة تمنع تكديس الثروات الضخمة بأيدي أفراد معينين , فاقتصاد السوق لا يكبل أيدي من لديه مبادرة خاصة , ولديه الرغبة في إنشاء مشروعه الخاص , بالعكس تماماً الدولة تشجع من لديه مشروعاً خاصاً أن يتقدم به , و البنوك تقدم له التمويل اللازم بفائدة مخفضة قدر الإمكان , و تقدم له المكان مع بنية تحتية مناسبة , حتى أن أحد المشعرات الهامة في الاقتصاد هي نسبة المشاريع الناجحة في العام , ولكن في المقابل تنتظر منه الدولة في نهاية العام أن يدفع ضرائبه كاملة , و الويل لمن يفكر في التهرب من الضريبة , فكما قال لي أحدهم ضاحكاً : الأسهل أن تنجو من جريمة قتل من أن تتهرب من دفع الضريبة , فالضريبة هنا هي أحدى أهم الآليات لتحقيق العدالة الاجتماعية , فما يدفعه المرء من ضريبة هو حق المجتمع في أرباحه , و تهربه من دفع الضريبة هو سرقة لحق المجتمع .
و بالنسبة للدولة , الضرائب هي إحدى أهم الآليات المؤثرة في اقتصاد السوق , فتخفيض الضرائب عن القطاعات التي بحاجة إلى تطوير , تشجيعاً للمستثمرين على التوجه إليها , و يمكن أن تخفض الضرائب على من يجدد في أدوات الإنتاج تشجيعاً له على مواكبة الجديد في ميدان عمله ,...
و طبعاً الضريبة يجب أن تكون تصاعدية , فكلما كبر دخل الفرد كبر حجم ضرائبه , وهنا أيضاً عن طريق الضريبة تستطيع الدولة أن تؤثر على مستوى معيشة الأفراد و ذلك عن طريق الشرائح الضريبية و الإعفاءات الضريبية .
و لا ننسى هنا أن نذكر أن تراكم الأموال الكبير في أيدي فئة قليلة له تأثير سلبي على المجتمع و اقتصاده , فمن تتراكم لديه الأموال سيبحث عن سبيل لاستثماره , و أفضل استثمار في دولنا هو الاستثمار في العقارات و الأراضي , وحسب قانون العرض و الطلب تبدأ أسعار الأراضي و العقارات بالارتفاع اللامعقول , و المتضرر الرئيسي هو القسم الأكبر من الشعب , الذي لم يستفد من نجاح البعض في مشروعه الخاص لأنه لا يدفع الضرائب كما تحددها الحاجة الاجتماعية للدولة , و تضرر مرة أخرى لأن هذه الأموال التي لم تدفع كضرائب تعود إلى الاقتصاد لترفع أسعار المواد و العقارات و الأراضي نتيجة ازدياد الطلب عليها .
وفي هذه العجالة من الصعب تعداد مساوئ تراكم الأموال في أيدي فئة قليلة و لكن كما شبه الوضع أحد الأصدقاء : لديك شخص جائع , و مددت له طاولة تضم كل الأطايب , فأخذ يأكل و يأكل , و إذا لم يقل له أحد ما كفى , فإنه سيستمر بالأكل و سيؤذي نفسه و الآخرين , و هنا من سيقول له كفى , بالطبع الدولة بسياسة ضرائب واضحة هي من سيقول له : للمجتمع حق في ما تكسبه و إلا أصبح تراكم الثروات ضرر للمجتمع مما سينعكس عليك سلباً .
أنا أدرك أن هذا الكلام يبدو غريباً عن ثقافتنا , فالقول الشعبي السائد : الله يبعد عنا الشرطة و المالية .و هذه النظرة للضرائب تشمل جميع فئات المجتمع بغض النظر عن المستوى الثقافي , فحتى الطبيب الذي يعتبر الأعلى ثقافة يدفع تكليفه السنوي و هو يتذمر رغم أن البعض منهم يتجاوز دخله الشهري تكليفه المالي السنوي بعشرات الأضعاف , أما التجار و أوساط الصناعيين و المقاولين فحدث ولا حرج عن أرباح قد تتجاوز المائة ألف في اليوم الواحد , ويقدم للمالية ميزانيات خاسرة .
من كل هذا نستنتج إن الثقافة الضريبية يجب أن تكون جزءاً مكوّن من العملية التربوية في المجتمع , و المتهرب من الضريبة يجب أن ينظر إليه كسارق لحق المجتمع . حتى شرعاً الزكاة في الإسلام هي شكل من أشكال الضريبة , وهي برأي لا تحدد بإثنان بالمائة فقط و إنما تحدد حسب حاجة المجتمع , و الفهم الصحيح لفرض الزكاة و من يعفى منها يوصلنا لفكرة الضريبة التصاعدية .
و لكن أولاً يجب أن يكون لدينا قانون ضرائب واحد , واضح , يطبق على الجميع بدون استثناء , و أن تكون آليات مراقبته فعالة , و أن تكون آليات مكافحة التهرب الضريبي و عقوباته قاسية و رادعة .
في مجتمعنا من يحق له أن يقول " نحن دافعي الضرائب " هم الموظفون , أصحاب الدخول " المكشوفة " , و هؤلاء ليسو هم المقصودين بهذه المقالة , فهم غالباً يجب أن يكونوا مشمولين بالإعفاء من الضرائب , و فعلياً هم من يحق له أن يقول " نحن دافعي الضرائب " .
أما لمن يقول : ماذا تقدم لنا الدولة مقابل ما ندفعه من ضرائب , فهذا حديث آخر , و عندما يدفع الجميع ما عليه من ضرائب , هنا نقول : " نحن دافعي الضرائب نطلب ...".
هل فهمتم معي الآن لماذا قائمة أغنى رجال العالم تضم كل هذا العدد من الأثرياء العرب ..!