بداية لابد من التنويه بأنني لست اقتصادياً أكاديمياً , و إنما سأعرض وجهة نظر المواطن المتابع و المهتم لإيماني بأن المساهمة في كشف الأسباب التي أوصلت مجتمعنا إلى أزمته الحالية هي الخطوة الأولى نحو الخروج من الأزمة .
من تجارب من سبقنا في الانتقال من الاقتصاد الموجّه إلى اقتصاد السوق ندرك أن هذا الانتقال مؤلم و قاس و خاصة على الطبقات الفقيرة و الفئات ذات التأهيل المهني المتوسط و المنخفض , و التي تعتمد أكثر من غيرها على حماية الدولة الاقتصادية و الاجتماعية , فهي عادة أكثر تأثراً بالتغيرات التي تطرأ على المجتمعات في الفترات الانتقالية لقلة مدخراتها و سرعة استنزافها . بدأ الأمر مع تحرير آليات اقتصاد السوق , و أخذت معه طبقة أصحاب الأموال مع فئة من بيروقراطيي الدولة السابقين , و من حولهم , بالتحوّل إلى رأسمالييّ اقتصاد السوق الوليد , مستغلين علاقاتهم ببيروقراطية أجهزة الدولة للاستئثار بمعظم عوائد التحول الاقتصادي الجديد , و استطاعت هذه الطبقة الجديدة أن تنسج تحالفات تجمعها مع بيروقراطية الدولة لصياغة قوانين تخدم مصالحها الضيّقة و تحكم سيطرتها على قطاعات الاقتصاد الواحد تلو الآخر مجبرة جميع من يريد أن يقوم بنشاط اقتصادي أن يخضع لشروطها و يرضخ لابتزازها خوفاً من إفشال مشروعه بقوة القانون الذي تحتكر تطبيقه و تعليماته التنفيذية .
و ترافق الخلل مع قهر اجتماعي صارخ في ظل غياب أو قصور القنوات التي تنقل ما يجري عبر وسائل إعلام حرّة , و آليات محاسبة جّدية تمارس من قبل أجهزة منتخبة بشكل ديمقراطي همّها إرضاء الناخب لا من أوصلها إلى منصبها . و هكذا تحوّل إمام أعيننا ما كان الجميع ينادي به من انتقال باتجاه اقتصاد السوق , متوقعين انه سيجلب الرخاء و الوفرة , إلى كابوس يهدد لقمة عيش الطبقات الأكثر فقراً , و كانت نقمة هؤلاء تزداد مع ظهور و نمو أصحاب الملايين الجدد الذين جنوا ثرواتهم عن طريق تحالفهم مع بيروقراطية الدولة لقوننة نهب ما تبقى لدى الطبقات الوسطى و الفقيرة , و كل ذلك دون إقامة استثمارات جدّية في قطاعات إنتاجية أو خدمية تؤمن فرص عمل و تنتج ثروات حقيقية للمجتمع و إنما توظيف هذه الأموال في ميدان المضاربات التي تعقد ظروف حياة الطبقات الوسطى و الفقيرة و تزيدها صعوبة .
و المثال الأكثر تعبيراً عن هذا الواقع كان مقاربتها لمشكلة السكن . من المعروف أن حاجة القطر , و حسب أرقام الخطة الخمسية , تقدر ب / 800 / ألف وحدة سكنية , أي أن الطلب شديد , و استطاعت بيروقراطية الدولة بتحالفها مع حيتان اقتصاد السوق الناشئ أن تعمق أزمة السكن عندما توقفت الدولة , و منذ أكثر من / 10 / سنوات عن توزيع أراض على الجمعيات السكنية , فزادت بذلك من حدّة الطلب المرتفع أصلا على المساكن , و ترافق الطلب الشديد مع أمرين اثنين تضافرا معاً ليجعلا الحصول على مسكن لائق أمرا شبه مستحيل .
الأمر الأول هو صدور قانون الإيجار الجديد , و الذي قدّم حلاً للوضع غير الطبيعي الذي ساد لفترة طويلة , و الأمر الثاني هو تخفيض الفائدة البنكية على الودائع , و الذي يفهمه الاقتصاديون انه تحفيز للنمو عبر دفع أصحاب الأموال إلى البحث عن استثمارات أكثر نجاعة من الفائدة البنكية المخفّضة , و لكن في ظل غياب قنوات توظيف استثماري لهذه الأموال في مشاريع آمنة , اندفعت هذه الكتلة النقدية الضخمة نحو سوق العقارات و شراء الأراضي الزراعية , و هو ما كان يتوقعه مسبقاً المقربون من دوائر اتخاذ القرارات الاقتصادية الهامة جانين الأموال الطائلة من مدخرات الطبقة الوسطى التي لجأت لتوظيف مدخراتها في سوق العقارات بحثاً عن دخل إضافي كانت تأمنه أسعار الفائدة في حينها و التي خفّضت بشكل حاد .
و ارتفعت أسعار العقارات بشكل جنوني دون أن تقوم الدولة بدورها المفترض كحافظ للتوازن الاجتماعي و مدافع عن مصالح الفئات الأكثر حاجة و عوزاً . و بعد ذلك اندفعت أموال المضاربين نحو شراء الأراضي الزراعية لترتفع هي الأخرى بشكل مهدد للإنتاج الزراعي نفسه إذ أصبح الإيراد من بيع الأرض أجدى اقتصادياً من زراعتها , كل هذا كان يجري تحت أنظار أجهزة الدولة الاقتصادية , التي ليس فقط لم تتدخل , بل انخرط كبار المحسوبين عليها في تلك اللعبة الاقتصادية التي عمّقت حالة الاغتراب القائمة بين الدولة و المواطن .
لا يمكن لاقتصاد سوق متوازن أن يتطور إلا في جو ديمقراطي يسمح لصاحب القرار الاقتصادي أن يعرف نتائج قراراته على الأرض , هذا مع افتراضنا لحسن النية طبعاً . فالتحوّل إلى اقتصاد السوق يستوجب ترك حرية العمل النقابي الحقيقي للدفاع عن مصالح أعضائها , و بعكس ذلك سيكون عندنا اقتصاد سوق يصوغ فيه صاحب العمل شروط تؤمن له اكبر الأرباح مع ظروف عمل يفرضها هو على العاملين لديه , و عدم وجود قنوات قانونية تدير الصراع ( النقابات ) ضمن قوانين السوق لموازنة ثقل صاحب العمل في فرض شروط العمل سيؤدي إلى ازدياد السخط الشعبي .
كما إن عدم وجود معارضة سياسية للحكومة القائمة يترك يدها مطلقة في ممارسة سياساتها الاقتصادية دون مراقبة أو محاسبة . و فوق هذا و ذاك إن الانتقال إلى اقتصاد السوق يتطلب بنية قانونية و قضائية متطورة و مستقلة تسهّل عمل المستثمر و تفض نزاعه مع بيروقراطية الدولة و مع المتطفلين على المستثمر الحقيقي , و عدم وجود هذه البنية القانونية سيؤدي إلى ما نراه , حيث أن الحصول على ترخيص لإقامة مشروع ما هو شبه مستحيل دون مساومة مع بيروقراطية الدولة , تبدأ من طلب مقابل مالي و صولاً إلى طلب محاصصة في المشروع . و بالتأكيد الحصول على بنية قانونية ملائمة لاقتصاد سوق سليم غير ممكن باستجلاب نموذج جاهز, رغم أهمية الإطلاع على النماذج المطبقة في الاقتصاديات الأخرى , و لكن الوصول إلى بنية قانونية ملائمة لاقتصادنا لا يتم إلا عبر وجود صحافة حرّة و قضاء مستقل و حكومة مسؤولة أمام ناخبيها عن تحقيق اكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية عبر آليات اقتصادية تتلاءم مع اقتصاد السوق , أي بكلمة أخرى سياسة ضريبيّة هدفها إعادة توزيع الثروة باتجاه حماية الفئات الأكثر فقراً . مشكلتنا الأساسية أن انتقالنا نحو اقتصاد السوق لم يرافقه إصلاح سياسي يوسّع الهامش الديمقراطي و يسمح بكشف و تقليل آثار انسحاب الدولة من توجيه الاقتصاد , و يمهد الطريق لتطبيق مبدأ أساسي في اقتصاد السوق و هو مساواة الجميع أمام القانون .