هاهي الأزمة السورية تستعد لدخول شهرها التاسع و لا يلوح في الأفق إمكانية إيجاد حل ينقل الوطن إلى مرحلة جديدة , ليس بسبب قلة الاقتراحات لحل الأزمة ( و ما أكثرها ) و لكن لتعنت أطراف الأزمة و تشبث كل طرف بفرض حله الخاص لها .
لنبدأ أول ما نبدأ به حديثنا عن الأزمة نفسها , و لابد من أن نقر , و تقر معنا كافة الأطراف , أن ما تشهده سوريا هو حراك شعبي , تحول في بعض المناطق ( التي ندعوها بالساخنة ) إلى حراك جماهيري واسع , و هذا الحراك يمكن تلخيص أهدافه التي يكاد يجمع عليها جميع السوريين بتفكيك بنية النظام القائم و التي لا تترك أي مجال لمشاركة المواطن في آلية اتخاذ القرار , و إنهاء حالة الانفصال و الاغتراب القائمة بين المواطن و الدولة بأجهزتها المختلفة , و بناء مجتمع مدني ديمقراطي تعددي يقوم على مبدأ الانتخاب و تداول السلطة على جميع مستوياتها , و مسؤولية الهيئات المنتخبة أمام ناخبيها .
النقطة التي لا يجب أن يشك بها أحد , و التي أثبتتها طول مدة الأزمة , أن السوريين حريصين على أن لا يحدث انهيار للدولة و مؤسساتها ( رغم كل الملاحظات على أدائها ) , و الأغلبية الساحقة تفضل أن يتم انتقال سلمي وتدريجي نحو المجتمع المنشود , و أكاد أجزم أن السوريين بأغلبيتهم كانوا أحرص على وحدة البلاد من طرفي النزاع أنفسهم .
بنفس الوقت يجب أن نقر أن العامل الخارجي واكب الأزمة منذ بداياتها عن قرب , و كان دوره يكبر يوما ً بعد يوم مستغلاً أحقية المطالب الشعبية من جهة , وسوء إدارة الأزمة من جهة أخرى ليصبح العامل الأهم في الأزمة موجهاً إياها لتحقيق مصالحه ضمن المعادلة الإقليمية و الدولية .
و أحد أهم الأسئلة التي تقلق السوريين اليوم هو : كيف نقلل من أهمية العامل الخارجي في الأزمة , و نحوّل الصراع الذي يدور اليوم بين حل أمني يحاول أن يفرض الهدوء على الشارع و بين حراك شعبي يعتبر أن عودة الهدوء هو خيانة لدماء من سقطوا من أجل مطالب حق , إلى صراع منظم بين أحزاب سياسية تتبنى الحراك الشعبي القائم و تصيغ مطالبه في برامج سياسية تقودنا إلى انتخابات برلمانية حقيقية .
المتابع للأزمة منذ بدايتها يكتشف بسهولة أن أهم أدوات العامل الخارجي خلال الأزمة هو الإعلام , و الضغط الخارجي قائم بشكل أساسي على تهويل و تكبير ما ينقل عما يجري في الداخل السوري , متحججة بالمنع الرسمي للإعلام المستقل بنقل الأحداث . هذا المنع استغل بكفاءة كبيرة لخلق صورة افتراضية تخدم مصالح الخارج أكثر مما تخدم المحتجين أنفسهم , و أعتقد أن احتكار النظام لنقل الأحداث لا يخدم حتى النظام نفسه , ففي عصرنا الحالي لم تعد المشكلة بنقل الخبر و إنما بمصداقية الخبر , و هذه المصداقية لا يمكن أن توضع على المحك إلا بوجود مصادر متعددة تنقل الحدث , لذلك أعتقد بقوة أن السماح للإعلام المستقل بالدخول لتغطية ما يجري سينزع من يد العامل الخارجي سلاحاً هاماً , و من يعترض على هذا الكلام بأنهم سينقلون ما يخدم أهدافهم أقول إنهم يفعلون هذا الآن دون أن يضطروا إلى إثبات مصداقية ما يبثونه , على الأقل عندما نسمح لوسائل الإعلام المستقلة بالدخول سيضطرون للالتزام بالقوانين الناظمة لنقل الأخبار , و من جهة أخرى لا بد من الاعتراف بأنه من حق المحتجين أن يصل صوتهم إلى مواطنيهم عبر وسائل إعلام مستقلة في وطنهم و عدم اضطرارهم إلى اللجوء إلى وسائل إعلام أجنبية أقل ما يقال عنها أنها تخدم مصالح من يمولها .
النقطة الثانية المهمة لمنع تدويل أزمتنا الداخلية هي إفساح المجال أمام المعارضة الداخلية الوطنية بمختلف أطيافها لتتبنى الحراك الشعبي القائم و تصيغ مطالبه في برامج سياسية و اجتماعية و اقتصادية بدلاً من تركه لمعارضي الخارج يتولون هذه المهمة , مع كل ما يعني ذلك من فسح المجال لاستغلال هذا الحراك من قبل الخارج .
و إفساح المجال أمام المعارضة الداخلية يساعد في أمرين هامين , الأول : يساعد على الفرز ضمن حركة الاحتجاجات نفسها و ينظمها و يمنحها القادة السياسيين المعبرين عنها و يمنع انزلاقها نحو العنف , و الثاني : دفع " الأغلبية الصامتة " للانخراط في العمل السياسي , تلك الأغلبية التي دفعت للوقوف على الحياد ليس لأنها لا تريد التغيير , وإنما لأنها وقعت في مأزق الاختيار بين طرفي الصراع , بينما وجود برامج سياسية مختلفة سيدفع هذه الأغلبية لأن تقول كلمتها التي يدعي كلا الطرفين تمثيله لها .
إن فتح المجال أمام المعارضة الداخلية للعمل يعني إعطائها حرية التوجه إلى المواطنين عبر قنواتها التلفزيونية الخاصة , و حرية التجمع .... الخ . إن هذا العمل إذا ما تم سيفقد المعارضة الخارجية شرعية ادعائها تمثيل كل المعارضة السورية و سيعطي مصداقية حقيقية لقوانين الإصلاح التي أصدرت , و سيقود إلى حوار وطني حقيقي يوصلنا إلى انتخابات برلمانية حقيقية تظهر الوزن الفعلي لكل القوى السياسية على ارض الواقع , و عندها فقط سيدرك الجميع إن من ينادي : لا حوار هو طالب لسلطة لن ينالها عبر صناديق الاقتراع .