كلما ناقشت موضوع الفساد مع أحدهم , و مهما كان انتمائه الثقافي و الاجتماعي , ترى نظرة حقد وقسوة ممزوجة بالعجز و هو يقول : المشانق هي الحل .
لا ريب في أن الفساد هو أحد المشاكل الكبرى التي تعاني منها كل المجتمعات البشرية و هي مشكلة قديمة قدم الدولة نفسها , و التاريخ يذكر لنا قصصاً عن مفسدين . و للفساد أشكال كثيرة متنوعة تتقاطع عند تعريفه الذي يقول : الفساد هو استعمال منصب في السلطة لتحقيق منفعة شخصية .
و كلنا توقف باهتمام عند عبارة " صرف لأسباب تتعلق بالنزاهة " أو " محاربة الفساد " خلال تصفحه الجرائد اليومية , و هذه العبارات نسمعها منذ زمن طويل يتعدى العقود , ويبدو أن المشكلة ليس فقط مازالت موجودة و إنما تستفحل و تتمدد لتطال أكثر فأكثر جوانب كثيرة من أنشطة الدولة , و أخذ الفساد في " آخر تحديث له " شكل شبكات متكاملة تطال الأجهزة المسؤولة عن محاربة الفساد كأجهزة الرقابة و صولاً إلى القضاء , ولكل حصته من " الكعكة " . و هذه الشبكات تقدم بين الفينة و الأخرى ضحايا يعلن عنهم في الجرائد تحت عنوان " صرف لأسباب تتعلق بالنزاهة " و هؤلاء الضحايا غالبا ما يكونون ممن لم يفهم قواعد اللعبة جيدا , أما الشبكات فتحافظ على هيمنتها , و كل شبكة مختصة بقطاع اقتصادي معين لا تسمح للشبكات الأخرى بالدخول إليه إلا عبرها . و عندما يصل الفساد إلى الهيئات التشريعية و التنفيذية , تصاغ قوانين مفصلة لخدمة فئة بعينها , أو تعليمات تنفيذية يترك فيها ثغرات لمصلحة فئة معينة .
و لا يظن أحد أن وجود مثل هذه المنظومة هو اختراع محلي لم يسبقنا إليه أحد , فالفساد مشكلة عالمية , و ضمن تصنيفات المنظمات الدولية هناك تصنيف للدول حسب استشراء الفساد فيها .
و نعود بعد هذه المقدمة الطويلة إلى ما بدأنا به : هل المشانق هي الحل ؟
إن محاربة الفساد ليست بالسهولة التي نظنها , فهي مهمة مستمرة لا تنتهي بتعليق هذا الشخص أو ذاك و إنما محاربته تكون بتفكيك منظومة الفساد بأكملها و خلق ظروف تمنع إعادة بناءها .
و لكن هل يكفي قرار أو توجيه أو نية صادقة لتفكيك منظومة الفساد ؟
هل تكفي " مخافة الله ", على أهميتها , للقضاء على الفساد ؟ كم نعرف من رموز للفساد يتسترون بالدين ؟ خاصة أننا لم نعط القدرة على معرفة ما في النفوس .
إذاً ما هو الحل ؟ الحل برأي هو خلق منظومة متكاملة تسمح بكشف الفساد و ضرب شبكته و تمنع إعادة بناءها , معتمدة على تضافر جهود المجتمع كله لمحاربة هذه الآفة. و هذه
المنظومة تقوم على :
1 ) سيادة القانون و استقلاله : لا تتم سيادة القانون بإقرارها في هيئة تشريعية و نشرها في جريدة رسمية , سيادة القانون تتحقق بوجود المؤسسات التي تضمنها وتكفلها .
2 ) حرية الإعلام : من الأهمية بمكان أن يكون للجميع الحق بكشف شبكة الفساد التي تعتمد في عملها على تخويف الناس و ترهيبهم بقوة فوق القانون يملكونها , فسيادة القانون مع قانون واضح للأعلام يكفل للجميع إمكانية التعبير الحر عن الأخطاء هو حجر الزاوية في أي إصلاح هدفه تفكيك شبكة الفساد و فضحها من حلقاتها الأولى و صولاً إلى القضاء المتآمر معها .
3 ) أحزاب سياسية و منظمات المجتمع المدني : وجود أحزاب سياسية حقيقية هو الضمانة لحرية الإعلام و سيادة القانون , فالأحزاب السياسية , بغض النظر عن ألوانها و إيديولوجياتها , هي المدافع الأول عن القانون الذي أوجدها , و تبنيها لقضايا محاربة الفساد و القضايا التي تهم المواطن هو ما سيحدد شعبيتها .
4 ) وضوح القانون : من الهام جداً أن يكون لدينا القوانين الواضحة , المواكبة لحياتنا المعاصرة و الملتصقة بقضايانا اليومية , و هذه القوانين بحاجة دائمة إلى هيئة تشريعية تقوم بتحديث القوانين لسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها الفساد .
5 ) آليات المراقبة و المحاسبة : هذه الآليات لا تكون بتكاثر أجهزة الرقابة , ولكن بشفافية عمل هذه الأجهزة و خضوعها للهيئات المنتخبة على جميع المستويات من مجالس البلديات إلى أعلى هيئة تشريعية و المحاسبة تعتمد على قضاء نزيه مستقل مُراقب من قبل الإعلام و الأحزاب السياسية و هيئات المجتمع المدني .
إذا هل تكفي أعمدة المشانق لحل آفة الفساد ما رأيكم ؟