السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
فضيلة الشيخ الجليل يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ، أود بداية أن يعم الخير والأمن والسلام ربوع الوطن العربي من مشرقه إلى مغربة ، ومن شماله إلى جنوبه ، لأن حالة عدم الاستقرار التي تشهدها الأمة العربية تثير حالةً من القلق ، وتفيض القلب حزناً لمشاهد القتلى والجرحى والدمار الذي ينتشر في كل مكان .
صحيح أن حالة الفوضى التي نشهدها هذه الأيام لها أسبابها وسيكون لها نتائجها التي ستنعكس على المواطن العربي قبل سواه ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك ، ولكن من المهم لنا في هذه اللحظات العصيبة أن تقف الأمة موقفاً موحداً حيال الخطر الذي سيجرف الجميع من حوله ، كما يجرف التسونامي الذي شهدنا آثاره مؤخراً في اليابان جميع من يعترض طريقه ، وعلى العاقلين من أبناء الأمة أياً كانت مواقعهم سياسيون أو إعلاميون أو رجال دين وعلم وأدب ، أن يقفوا موقف الناصح ، أن يقفوا موقفاً عقلانياً يقوم على التهدئة لا على التحريض ، وهذه المقدمة سماحة الشيخ الفاضل هي اعتراض مني ومن قبل الكثيرين على تهجمكم غير المبرر على سورية ، ودعوتكم السنة على إعلان الثورة على العلويين ، حقيقة لقد استهجنت خطابكم غير المسؤول على سورية من دولة قطر التي تقيمون بها وتحملون جنسية بلدها بعد أن تم إبعادكم من وطنكم مصر في عام 1981 بسبب خلافكم مع حكام دولتكم ، وأنتم عبرتم عما رغبتم والدولة فرضت قرارها بإبعادكم ولا أريد أن أكون حكماً من هو على صواب أنتم أم الحكومة التي أبعدتكم عن الوطن فهذا شأن خاص بينكم فأنت تنتمي لمصر ولكل دولة قوانينها .
ولكني أرفض رفضاً قاطعاً أن تحرضوا أبناء الشعب السوري على إعلان الثورة ضد النظام كما يحلو لكم تسميته ، هذا النظام الذي تعرفون قبل غيركم أنه يدعم الحق العربي ويدافع عن المظلوم . أنتم تعلمون جيداً أن تحريض الآخرين وسن الفتاوى العدوانية تتنافى أصلاً مع الشرع والدين ، إني أستغرب تحريضكم السنة الذين يمثلون الأغلبية في وطننا الحبيب سورية على إعلان الثورة ضد النظام الذي قلتم في خطبتكم النارية إن "القلة من العلويين تحكمكم" ، أستغرب منكم هذا الموقف المرفوض من قبل جميع أطياف الشعب السوري بمسيحيه ومسلميه ، المرفوض من معظم الشعب العربي من المحيط إلى الخليج ، أستغرب ما صدر عنكم من تصريحات تحريضية من بيت الله ، من منبر مقدس يجب أن يدعو إلى السلام والإخاء والمحبة ، أن يدعو إلى اعتماد الدين وسيلة للدعوة الهادئة الرصينة ، لا أن يدعو للاقتتال الطائفي والمذهبي ، لقد كنت في خطبتكم ضد سورية عدوانياً من دون وجه حق ، هل تريد أن تقود البلاد إلى حرب طائفية ؟ لماذا هذا التهور الذي لا يمكن أن يصدر عن إنسان يتسم بالمسؤولية الدينية ؟ لقد خطبتم في الناس ودعوتم إلى الفتنة في هذا الوقت الذي نحن فيه جميعاً في الوطن العربي عرضة لمخاطر خارجية تهدد مصيرنا وأمننا وكبرياءنا وكرامتنا ووحدتنا وعروبتنا ، وبعيداً عن خطبتكم العصماء أود أن أسالكم وأنتم الرجل الذي يحمل لواء الدين ، هل السنة فقط هم المسلمون ؟ هل العلويين أو الشيعة أو الدروز وسواهم من الأقليات الدينية كما تقول ليسوا مسلمين ، ألا توجد برأيك حقوق للأقليات ، أستطيع أن أتحدث عن سورية ولا أملك الحق في التحدث عن الآخرين ، نحن نعيش في مناخ تآلفي فريد من نوعه يحسدنا عليه الآخرون ، تعيش الأقليات التي تتحدث عنها مع الأكثرية التي تنمي إليها في محبة وألفة وإخاء ، لا فرق لدينا في سورية بين مسلم ومسيحي ، فكيف يكون هناك فارق بين مسلم وشقيقه المسلم .
عند اندلاع ثورة الشباب في مصر في 25 كانون الثاني 2011 دعوتم من أحد جوامع قطر إلى الوحدة بين الأقباط والمسلمين وبين والإخوان المسلمين والسـلفيين وبين العلمانيين ، دعوتم يومها إلى التصالح والتصارح وشهدت دعواتكم الإعجاب والتقدير والقبول ، فقد كانت تصريحاتكم كالبلسم الذي يداوي الجروح وكانت بحق على قدر المسؤولية ، فالشعوب عندما تعصف بها الأزمات ويهدد أمنها الخطر أحوج ما تكون إلى مثل هذه التصريحات المسؤولة ، هذه التصريحات التي تعزز الوحدة الوطنية لمواجهة الأخطار التي تعصف بأمن وسلامة الوطن ، وعلى النقيض تماماً استغرب تصريحاتكم غير المسؤولة نحو سورية ، سورية الممانعة ، سورية المقاومة والبذل والعطاء التي تعيش مناخاً تعايشياً أخوياً من النادر أن تجدونه في أية دولة أخرى ليس فقط بين المسلمين وعلاقتهم ببعضهم البعض بل بين المسلمين والمسيحيين بمختلف طوائفهم ، في سورية تتعانق الجوامع والكنائس ، والكل يمارس حريته ومعتقداته الدينية ، وهذا ما لا تجده في أية مكان آخر . بعض الدول الأوروبية حاولت قبل سنوات تشويه صورة سورية من خلال محاولة إثارة القلاقل وزرع الفتنة الطائفية ، والفتنة أشد من القتل ، وعندما فشلوا فيما هدفوا إليه ، بدؤوا بتحريض الآخرين للفتنة ونحن لم نستغرب مطالبهم لأننا نعرف مقاصدهم فهم لا يريدون الخير للوطن ، يريدون استغلال خيرات بلادنا العربية والهيمنة على الرؤساء .
لقد شعرت بالصدمة وأنا أستمع إلى خطابكم الثوري ، خطاب مفعم بالعنفوان والقوة والنقمة ، خطاب يدعو حقيقة إلى الفتنة ، ولم أتخيل يوماً أن يصدر مثل هذا الخطاب من شيخ جليل فاضل يتولى رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فقد كان الأولى بكم أن تلتفتوا إلى أمور الدين وتتركوا السياسة لأهلها ، لقد أردت التوجه إليكم بهذه الكلمات لأعلمكم بأن أي مواطن عربي مهما كان انتماؤه أو عقيدته ، وحتى إن كان على خلاف مع حكومة بلاده وسياساتها فإنه سيقف في الخندق الأول مدافعاً عن أي خطر خارجي يعترض سلامة وحرية وطنه ، فكيف الحال إذا كان هذا المواطن سورياً رضع السياسة وشب على حب الوطن وعزته وكرامته .
إن تهجمكم الكبير على الرئيس بشار الأسد وعلى الحزب الحاكم في هذا الوقت فيه الكثير من التناقضات فالرئيس الأسد استقبلكم أكثر من مرة بعد أن رفضت الكثير من الدول استقبالكم بسبب مواقفكم العدائية منها وقد استمع إليكم وتحاورتم معه أكثر من مرة كما تعرفون في كثير من الأمور ومنها ما يخص جماعة الإخوان المسلمين ، وأعربتم مراراً وتكراراً في أحاديثكم التي يمكنكم العودة إليها بأن الرئيس الأسد إنسان مثقف وواع ومتفهم للأمور . ومن هنا أريد القول بأن ما قدمه الرئيس بشار الأسد للمواطن السوري لبى الكثير من طموحاته ، وما يزال هناك الشيء الكثير الذي سيقدمه والذي أعلن عنه في السابق وقبل أن تتعرض البلاد لعدوى الثورات كما يحلو للبعض تسميتها ، قلتم في خطبتكم المشهودة بأن الرئيس السوري يمثل فئة قليلة وأنه يهاجم الإخوان المسلمين وأنه يرى بعين أقليته ويسمع كلامهم فقط ، وهذا الكلام لا صحة له جملة وتفصيلاً ، ويبدو أنكم لا ترون ولا تسمعون إلا ما ترغبون بسماعه ورؤيته ، فسورية تعيش في تآلف فريد من نوعه ولهذا فمن المؤكد أن تكون عرضة للهجوم الشرس من قبل الآخرين ، الرئيس مستشاروه مسلمون من مذاهب مختلفة ومسيحيون ، والحكومة نسيج متكامل تضم جميع أطياف المجتمع بمذاهبه كافة ، وهذا الحال ينطبق على جميع مؤسسات الدولة ومن ضمنها مجلس الشعب الذي يمثل نسيج الأمة بمختلف أطيافه وألوانه بمثقفيه وعماله وفلاحيه برجال الدين والأدب والسياسية ، النظام كما يحلو لكم تسميته لم يستثن أية طائفة ولم يميز أحداً سوى بعمله ، وأنتم تدركون قبل غيركم أن هذا التمازج الفريد في سورية بين الأديان من النادر أن تجده في بلد آخر . إنك تدعو إلى التحريض ، إلى الثورة ، إلى الحـرب الأهلية ، تدعو إلى إزهاق الأرواح ، متناسياً أن الإسلام هو دين سلام وتسامح ، دين محبة وعطاء وإخاء ، دين نعتز به مسلمين ومسـيحيين على مختلف مذاهبنا وطوائفنا ، نعتز بالعيش المشترك وبالألفة التي تميز شعبنا عن سواه من الشعوب .
إنكم بدعوة الشعب السوري للتظاهر تثيرون الفتنة الطائفية ، وكأنكم تصبون الزيت على النار ، من هو المستفيد برأيكم مما تدعون إليه ؟ ولماذا توجيه هذه الدعوة في مثل هذا الوقت تحديـداً ؟ هل تحاولون استغلال ما تشهده المنطقة من ثورات لنقلها إلى سورية ؟ لماذا محاولة زرع الفتنة ؟ إن واجبكم كرجل دين دعوة المسلمين إلى التعاضد والتآزر لمواجهة الأزمة . هل هناك هدف مقصود من هذا التهجم على سورية ؟
ماذا فعل لكم النظام كما يحلو لكم تسميته لتعملون على إسقاطه . أليس هذا النظام هو من دافع عن الحق وأجار المظلوم . أعتقد أنكم بكلمتكم الأخيرة خسرتم الكثيرين ، وكان من الأفضل لكم أن تفتون فقط في أمور الدين ، ولكن عندما تخرج الفتاوي عن الإطار الخاص بها تجعل مصداقيتها وصورتها عرضة للاهتزاز ، وهذا ما كنتم فضيلتكم عرضة له دون أن تفكروا بعواقب ما دعوتم إليه .
عليكم اتخاذ المنابر للإصلاح والإخاء ، أين كنتم يا شيخنا الجليل عندما زهقت أرواح الفلسطينيين في غزة أين هي خطبكم النارية وأنتم تشهدون عمليات القتل والدمار التي تقوم بها إسرائيل بحق الفلسطينيين كل يوم لماذا لم تطلبوا من رجال المقاومة القيام بعمليات استشهادية ضد قوات الاحتلال الذي يحتل الأراضي العربية ويزهق الأرواح بلا ضمير ؟ أين كنتم في اعتداء إسرائيل المتكرر على الأراضي اللبنانية ؟ أين أنتم من إحراق القرآن الكريم ؟ لقد قرأت خبراً جاء فيه شجب رئيس أساقفة مدينة كركوك والسليمانية للكلدان في العراقي لويس ساكو قيام القس الأمريكي بحرق نسخة من المصحف الشريف ، واصفاً هذا العمل بأنه “لا أخلاقي” . قائلاً “إننا نشجب بشدة هذا العمل من قسيس مسن أرعن ومنشق عن الكنيسة” . مضيفاً أن “هذا الفعل المشين موقف فردي لا يمثل بأي شكل من الأشكال موقف المسيحية والمسيحيين الذين يكنون كل احترام لإخوانهم المسلمين ، ونحن ندرك يقيناً أن أية إساءة للكتب المقدسة والرموز الدينية إساءة إلى الله مصدر الديانات ، وقد يكون وراء هذا العمل دافع سياسي أو عنصري يهدف الى اثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين” . كما شجب الحادث الرئيس الأمريكي باراك أوباما والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وسواه من المسؤولين الغربيين .
قلتم في خطابكم التحريضي وأنت تحثون المسلمين على الثورة من يقتل منكم يدخل الجنة فهذه فتوى خطيرة للغاية ذكرتني بصكوك الغفران التي عمد البابا إلى بيعها إلى المسيحيين الكاثوليك لدخول الجنة ، في حين اعتمدتم أنتم أسلوب التحريض لدخول الجنة . لقد هاجمت الأزهـر وسـورية والبحرين وغيرها وبعدها من يكون المستهدف ؟ تحدثتم بأن علماء الدين في سورية يعملون بإرادة الحكومة ، ولكنكم تناسيتم أن لهم استقلاليتهم الخاصة ولا أحد يستطيع أن يفرض عليهم أشياء لا يريدون القيام بها ، وخاصة فيما يتعلق بأمور الدين ، أنتم تعلمون أن لدينا من العلماء والأئمة في سورية من بلغ صيته أقصى الدنيا ، كما أن لدينا في الجامعات السورية كليات متخصصة بالشريعة الإسلامية ومراكز إسلامية متخصصة تخرج كل عام العشرات من الأئمة والشيوخ ، مثلما يوجد في الوطن العربي الكثير من الجامعات والمراكز الإسلامية التي تهتم بأمور الدين ، فلماذا لم يخرج أي عالم من علمائها ويقول الكلام الذي قلته ، لقد أخطأتم يا شيخنا الجليل في تهجمكم على سورية ، ويتوجب عليكم الاعتذار عما دعوتم إليه فهناك خطوط حمراء لا يمكن لكم ولا لسواكم تجاوزها .
وأنتم تدركون وقبل سواكم أن سورية عصية على الآخرين ، وهي قوية بتلاحم شعبها وتعاضده مع بعضه البعض مسلمين ومسيحيين ضد أي عدوان أو خطر خارجي يمكن أن تكون البلاد عرضة له ، فهي تشكل الخندق الأول وخط الممانعة الصلب في وجه الهجمة الشرسة التي تتعرض لها الأمة العربية . لقد وقفت سورية العروبة منذ احتلال إسرائيل الكيان الغاصب لدولة فلسطين في عام 1948 في خط المواجهة الأول ، ولم تبتعد عن هذا المنحى وتحيد عنه أية خطوة رغم ما تعرضت له من أخطار .