طبيب نفسي..
كان الطبيب جالساً خلف طاولة كبيرة، بدت عيادته كما لو أنها مكتبة فخمة، كما لو أنها قاعة كتلك التي نشاهدها في بيوت السفراء والوزراء، كبيرة وضخمة، الكتب تكسو كل جدرانها ولكن هذا ليس موضوعنا.. فالموضوع يتعلق بالمريض الذي سيدخل بعد أن يأذن له الطبيب بالدخول، هاهو الطبيب ينادي لمساعدته: ليلى .. يا ليلى
تسرع ليلى التي كانت تجلس في الغرفة المجاورة لترد على الطبيب: نعم دكتور
يبتسم الطبيب في وجهها ويستفسر منها: بنتي في حدا برا؟
ترد ليلى: ما في غير مريض واحد إجا مع إبنو وعم يستنى..
الطبيب: طيب بنتي .. خليه يفوت..
تستأنف ليلى: بس بدي قلك على شغلة طلبها مني إبن المريض..
ينظر إليها الطبيب باستغراب ويخلع نظارته ويسألها: شو هالشغلة؟
ليلى بارتباك: طلب مني شادي (اسمو شادي) طلب إنو مابدو أبوه يحس بشي..
الطبيب بهدوء: كلمة كلمة لإني ما فهمت شي..
ليلى: طلب مني شادي وهو إبن المريض اللي برا إنك ما تسأل أبوه أسئلة كتير وإنك تتجاوب معو على إنك صديق قديم لأنو إذا عرف أبو شادي إنو هي عيادة نفسية بتتدهور حالتو وبينهد كل اللي بنوه لحتى يصلو لها النقطة..
الطبيب مستفسراً: مين هنة..
ليلى: أهلو
الطبيب: طيب طيب خلص خليه يفوت..
ليلى: حاضر دكتور
تمشي ليلى بخطوات ثابتة نحو باب الغرفة وتفتح الباب ثم تنادي للمريض ولإبنه وأثناء دخولهما يحرك شادي رأسه نحو ليلى مستفسراً منها، فتغمز ليلى شادي بطرف عينها وتهز رأسها بأن الأمر قد تم..
ما أن دخل المريض حتى نظر إلى تلك القاعة بإعجاب شديد وازداد بريق عينيه لرؤية المكتبة والتحف الموجودة في تلك الغرفة، وعند وصوله إلى منتصفها نظر إلى الرجل الذي يجلس خلف الطاولة ثم نظر إلى ابنه مستفسراً فهز الشاب رأسه ووضع يده خلف ظهر والده ودفع به للوصول إلى الرجل الذي وقف لاستقبالهما والترحيب بهما..
الطبيب: يا أهلا .. يا أهلا بأبو شادي
نظر المريض مستغرباً مرة أخرى إلى ابنه الذي هز رأسه مرة أخرى وقال لوالده: هاد هو عمو زياد اللي حكيتلك عنو..
نظر المريض بتمعن إلى الطبيب وسأله: إنت زياد؟
رد الطبيب فاتحاً ذراعيه: أنا زياد كيفك يا أبو شادي..
هرع المريض ليحضن الطبيب بشدة وتساقطت الدموع من عينيه من حرارة الموقف.. وسأله عدة أسئلة: كيفك يا رفيق عمري، يا أحسن رفيق شفتو بحياتي....
كان يحضنه بعد كل سؤال من أسئلة الشوق التي يسألها تباعاًَ وكان يقبل كتفي الطبيب بحرارة حتى غرق الكتفان بالدموع..
نظر الطبيب إلى الشاب كما لو أنه كان يستنجد به ليبعد والده عنه وكان يجيب بكلمة (الحمد لله) على كل الأسئلة التي طرحها عليه المريض..
مد شادي يده وأمسك يد والده وحاول سحبه ولكن المريض رفض بشدة أن يقطع تلك اللحظات السعيدة التي استمرت لست دقائق أرهقته كثيراً فجلس على الكرسي المجاور لطاولة الطبيب.
دخلت ليلى تحمل كؤوس الشاي ووزعتها على الموجودين ثم وضعت كأساً لها وجلست مع شادي في زاوية بعيدة نسبياً عن مكان جلوس الطبيب والمريض اللذين بدأا حواراً طويلاً عن تلك الأيام التي قضوها معاً..
كان شادي مرتبكاً وحاولت ليلى أن تدخل الطمأنينة إلى قلبه لثقتها بالطبيب الذي يعالج والده، إلا أن شادي سأل ليلى: بس أبي حالتو كتير صعبة، وأكبر دكاترة البلد حاولوا معو وما طلعوا بنتيجة كيف بدو يحلها دكتورك؟
ابتسمت ليلى وأجابت: دكتوري يا سيد شادي متل ما سميتو حضرتك حل مشاكل ناس كتير، ومعظم الحالات كانت لكبار تجار البلد والمسؤولين، ما كان عندو مشكلة أبداً وبشوية معلومات عن المريض كان يعرف بشو عم يفكر قبل ما يشوفو.. وبحب طمنك إنو حالة أبوك تكررت معنا أكتر من مرة وانحلت بسرعة، لذلك لازم تحطوا إيديكون ورجليكون بمي باردة وتدعوا لرب العالمين لإنو الشفاء بإيدو، بس أنا بوعدك إنو دكتوري (وتبتسم) رح يحسن يحل المشكلة بإذن الله..
يرتاح شادي نسبياً بعد سماع كلمات ليلى ولكن عينه لا تنفك تراقب والده والطبيب الذي جلس معه مستمعاً ومتجاوباً مع ما يحكيه..
انشغل شادي للحظات عن والده وهو يستمع إلى ليلى التي كانت تصف بعض الحالات التي مرت عليها والتي كانت تحكيها بالألغاز لكي لا تفشي أسرار مهنتها ومهنة الطبيب الذي كرس حياته لعلاج تلك الحالات وبعد مرور ساعة من الزمن، انتهت مقابلة الطبيب والمريض وسار كل منهما نحو شادي وليلى والابتسامة بادية على وجه كل منهما..
نظر شادي إلى والده وفوجئ بكلامه: اتطمن يا شادي أبوك صار كتير منيح..
استغرب شادي ونظر إلى الطبيب الذي قال: امممممم بس مو كتير..
ضحك والد شادي وقال: مبلا كتير منيح.. وهلأ تعا بوس إيدو واسألو شو ما بدك؟
ينظر إليه شادي مستغربا فتقاطع ليلى استغرابه قائلة: روح شادي .. يلا
يهرع شادي نحو والده ولكن المفاجأة أنه يمسك يد الطبيب ويقبلها وعيناه تدمعان وهو يقول: الحمد لله على سلامتك .. كنا متأكدين إنك رح ترجعلنا بالسلامة..
تبتسم ليلى وتقول للطبيب الحقيقي وهو (أبو شادي سابقاً): يعطيك العافية دكتور..
يرد عليها الطبيب: الله يعافيكي بنتي .. وشكراً كتير إلك..
ليلى: العفو دكتور
ثم تلتفت إلى المريض (الطبيب سابقاً) وتقول: الحمد لله على سلامتك عمو.. إنشالله تكون مشكلتك انحلت..
يرد عليها المريض: الله يسلمك يا ليلى وسدئيني إنك كنت أحن عليي من بناتي، ولولاكي ما كنت تحسنت وبشرفني إطلب إيدك من أبوكي لإبني شادي..
ينظر إليه شادي خجلاً ويقول: بابا لا تحرجها للمخلوقة بركي مرتبطة..
يضحك الجميع وتنتهي اللوحة..
نهاية جميلة ولكنها ليست واضحة ولتوضيحها سأخبركم بما يلي:
الطبيب الذي تبين أنه هو المريض عبارة عن رجل ناهز السبعين من عمره ولكن القانون لا يحاسب المذنبين حسب أعمارهم ولأن التهم ثبتت عليه بقضية فساد كبرى، أصيب بانهيار عصبي واستيقظ بعد ذلك متقمصاً شخصية صديقه المتوفى والذي كان يعمل طبيباً نفسياً وحاول أن يقنع نفسه والآخرين أنه طبيب يعالج الناس من أمراضها النفسية وحصل على خبرته من الجلسات التي كان يجلسها أسبوعياً مع صديقه الطبيب.. استطاع الطبيب الحقيقي إنقاذ العجوز وحوكم حسب نصوص القانون التي درسها شادي في كلية الحقوق وعمل بها بالمحاماة ودرسها لأولاده من الفتاة التي شاركها حياته وهي ليلى ابنة مستشار علم النفس الذي أنقذ أسرة من الضياع.. ومجتمعاً من الفساد.