يجد دارس الدستور والقوانين نفسه أمام مجموعة من المبادئ والأحكام التي تكفل للمواطنين حرياتهم الأساسية، وطرق ممارستها، والتمتع بها من خلال مشاركتهم في الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية بشتى وجوهها.
لا بد من الإشارة، منذ البداية، إلى أن كلمة (حرية) تخرج عن إطار أي تحديد دقيق وجازم، لأنها على صراع دائم مع كل ما هو مقدّس.
فالإنسان الحر هو الذي لا يكون عبداً أو سجيناً، والحرية هنا هي تلك الحالة التي يستطيع فيها الإنسان القيام بما يريد، وليس بما يريده الآخرون، فتصبح الحرية مجموعة الحقوق المعترف بها للفرد والتي تحدُّ من سلطة الحكومة.
وقيل من الناحية الأخلاقية إن الحرية تعني الخضوع للعقل، والإنسان الحر هو ذلك الذي يعيش وفقاً لتوجهات العقل.
فهل نسعى إلى الحرية حقاً، أم أن في داخلنا رغبة غريزية للخضوع حتى للعقل؟ وما المقصود بالعقل هنا؟
وهل الزعيم الإفريقي نلسون مانديلا الذي دفع حريته ثمناً لكفاحه من أجل حرية أبناء وطنه، قد أدرك سجّانوه في النهاية مدى عظمته وأحقيته هو وشعبه في الحرية، وكان وهو سجين يمارس الزعامة، ويعقد الاجتماعات، ويصدر التعليمات والتوجهات. ومما يؤُثر عنهُ أنهُ تولى - كما نعلم - رئاسة جنوب إفريقيا سنوات، وعندما انتهت ولايته، أعلنَ أنه قد نال حريته من جديد، مشيراً إلى أن ممارسته للحكم كانت سجناً أيضاً، وهو مفهوم كان شائعاً لدى سارتر والوجوديين.
لمْ يكن عمر بن الخطاب يقصد بعبارة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟) أننا أحرار منذ خروجنا إلى الحياة، إنها مجرد كناية عن المجيء إلى الدنيا. وقد عشنا لنرى هذه الحرية نعمة ونقمة في وقت واحد، وهو تأكيد لمعادلة الحياة، وهي أن الخير والشر توءمان، كما يقول الشاعر علي محمود طه. الإنسان حر في أن يملك السلاح ليدافع عن نفسه ضد الوحوش الحيوانية والآدمية، أدى هذا في المجتمعات الصناعية إلى تفشي الجريمة، وأصبح من الصعب تقييد امتلاك السلاح لأن هذا سيضعف الأسوياء ويقوي المعوجين، فهم خارجون على القانون.
وكان الفراعنة، كما نعرف، يمارسون الضحية الآدمية، وكانوا يُلقون في كل عام درة بلا ثمن في نهرهم العظيم، وهو يكافئهم على ولائهم بالفيضان، ونحن نعرف الآن من حقائق (هايدرولوجية) النهر من أين، وكيف يأتي ذلك الفيضان. ومعروف أن شاعرنا العظيم المتنبي أمر بذبح شاب من عبيده لأنه ضُبطَ متلبساً بسرقة شيء تافه، ولكنه كان متعكّر المزاج في ذلك اليوم، طبعاً وهو الذي ينصحك بألا تشتري العبد إلا والعصا معهُ.
السؤال المطروح ما الشر الأساسي الذي يجب أن يتصدى له المجتمع الحديث؟
سيقول الكثيرون إنه الفقر، بينما يحسن بهم أن يقولوا العبودية، فالفقر هو العَرَض، والداء الأساسي هو العبودية، الناس لا يستعبدون لأنهم فقراء بل إنهم فقراء لأنهم مستعبدون، إذ لو أطلقنا رقاب العباد، ومنعنا حكاماً مستبدين سفهاء وجهلة من تبديد ثروات البلاد التي يحكمونها تحت شعارات بلهاء وحماقات لا طائل فيها، لأمكن القضاء على الفقر. وهنا علينا الإشارة إلى أنه لا يوجد بلد فقير بل بلاد تساء إدارتها وتنتهك حرماتها و تدمر مؤسساتها الإعلامية، وتتلف ثرواتها، من أجل أن ينتفع بلطجية السلطة بما يأتي به مما هو أوفر من مال قارون، وأثمن من جحر فيلسوف.
هل نحن حقاً نحب الحرية؟ كان سيغموند فرويد يرى أن هناك فجوة هائلة بين الفرد و المجموع، وأن الفرد بطبيعته معاد للمجموع، وأن على المجتمع أن يستأنسه بإشباع حاجاته، وأنه أي الفرد لا يتغير إلا بقدر ما يبذله المجتمع من ضغط عليه.أما جون ديوي فيقول إن الخطر الذي يتهدد الديمقراطية عندنا لا يتمثل في وجود مجتمعات شمولية، بل إنه ما يوجد في أعماقنا نحن، وفي مؤسساتنا نحن من الميل إلى تقبل السلطة، وإلى الانتظام مع الآخرين والانبهار بـ (القائد)كما نراه في غيرنا من المجتمعات.
يقول أحد علماء النفس أليس من المحتمل أنه بجانب الرغبة الدفينة في الحرية، تكمن في نفوسنا رغبة غريزية في الخضوع؟ وإلا فكيف نفسر انصياع الملايين منا لزعمائهم؟ وهل ننصاع دائماً للقوة الخارجية القاهرة؟ أم لدافع من أعماقنا! كالضمير أو الواجب أو سلطة لا اسم لها، كالرأي العام! وهل هناك إحساس خفي بالطمأنينة يأتي من الخضوع؟ وما هو جوهر هذا الإحساس؟.
قد نحاول الإجابة نعم، جوهره هو فقدان الثقة بالنفس وعدم الرغبة في تحمل المسؤولية عن أنفسنا. تخيل مدرساً يقود صفاً من التلاميذ الصغار في طريق مزدحم، وفجأة يختفي. لن يحسّوا بأنهم ناعمون بالحرية، سيحسّون بالذعر من المسؤولية التي هبطت على رؤوسهم كلهم. لأن عماد المسؤولية هو المعرفة. والذين لا يعلمون لا يتساوون مع الذين يعلمون، والشعوب لن تستطيع أن تمارس الحرية، ولن تستحق ذلك، إلا إذا أتيح لها أن تستنير بالمعرفة. والديمقراطية لمن لا يقدرون عليها ستخنق نفسها أو سيزهقونها هم.
المراجع
مدخل إلى الحريات العامة وحقوق الإنسان تأليف د.خضر خضر ـ لبنان طرابلس
مجلة (العربي). مقالة بعنوان الحرية القيمة المستحيلة. للكاتب محمد الحديدي ـ مصر