ثمة كلمات اذا قرأها المرء يصعب عليه ان ينساها بعد ذلك تماما كحالة العشق الأول تصبح وشما في الذاكرة ترقد في دورة الدم تهدأ احيانا حتى تخالها قد اختفت لكن في لحظة ما لحظة دون تخطيط لحظة خارجة عن حدود المنطق تتفجر مثل ينابيع دافئة تصخب مثل شلالات هادرة تتساقط من امكنة عالية ..
لعل تلك الكلمات التي رسمها لوركا في وصف صديقه مصارع الثيران اغناثيو سانثيث ميخياس صورة حية وصادقة عن هذه المقولة اغناثيو الذي جندله الثور في الحلبة وقتله هذا الأندلسي الذي كان مضيئا كالقمر في الاندلس قبل ان يموت ظل كذلك بعد ان روى لنا لوركا حكاية مصرعه....
لا أريد أن أراه ..قل للقمر أن يأتي.. لأني لا أريد أن أرى دم.. اغناثيو فوق الرمل.. لم يكن اغناثيو مجرد مصارع ثيران...كان رجلا طيبا...رحيما مثل السنابل...مضيئا مثل القمر...
ما أطيبه فلاحا في الجبل .. ماأرقه مع السنابل .. ما أكثر حنوه على الندى .. ما اروعه في المهرجان
رحل اغناثيو...سقط صريعا ...في الحلبة حدث ذلك...بعد العصر...قبل الغروب...في الخامسة تماما
في الخامسة عند الاصيل كانت تمام الخامسة عند الاصيل في الخامسة عند الاصيل لاشيء غير الموت...الموت وحده والثور وحده جذلان القلب في الخامسة عند الاصيل عادة الحلبات انها لا تحتمل منتصرين اثنين...الثور ومصارعه...احدهما يجب أن يقتل...لا يريد ايا منهما الموت للأخر...لكنه قانون تلك الحلبة..لابد ان يموت احدهما...وهاهو الان..اغناثيو يسقط ...يفارق الحياة..
يقول لوركا:
(سيمر وقت طويل..حتى يولد ان ولد اندلسي بهذا الضوء وبهذا الغنى في المغامرة.......)
وهاهو لوركا ينفجر بالبكاء: أريد أن يدلوني على مرثية كنهر ذي ضباب عذب وضفاف عميقة تمضي بجسد اغناثيو وتغنيه من غير ان يسمع خوار الثيران ما اشد هتك وقسوة الموت...يخلق الغياب الذي يلون الحياة بلون اصفر باهت ويجعل طعمها كمذاق الرماد...ان رجلا بقوة وشجاعة اغناثيو ..بحضوره الطاغي وهو يصارع الثيران...ان رجلا مثل هذا يجب الا يختاره الموت....يقول لوركا:
سيأتي الخريف بأبواق المحار وعنب الضباب وضفائر التلال ولكن لن يرغب أحد في رؤية عينيك لأنك مت الى الأبد عرفت الحلبات موت الكثرين قبل اغناثيو وسترى الكثير بعد ذلك....لكن وحده اغناثيو سيظل خالدا لقد حمله لوركا في قله وذاكرته...في الخامسة تماما كان اغناثيو يمتلئ بالحزن...كان يائسا ..غارقا في الهموم...منح الثور الفرصة التي ينتظرها....في الخامسة تماما سقط اغناثيو وكانت عينا لوركا تراقبان..تتابعان..هاهو عاشق القمر والغناء حين يقطف الثمار في الجبل...هاهو في الخامسة عند الأصيل يسقط...عيناه ظلتا دون خوف...
يقول لوركا: لم تغمض عيناه حين رأى القرنين يدنوان غير أن الأمهات الخائفات رفعن رؤوسهن وعبر الزرائب هبت ريح تبعتها أصوات لم تعرف أشبيلية أميرا مثله ولا سيفا كسيفه ولا قلبا بصفائه لقد كان اغناثيو سعيدا بهذا الموت...ان موتا مثل هذا سيصبح خلودا..كيف لا وعينا لوركا تريان كل شيء...موت اغناثيو الذي حدث في الخامسة تماما..في الأصيل..بعد العصر...قبل الغروب...لن يكون موتا...سيكون خلودا...سيتحول الى اغنية حزينة تطوف كنهر حزين ..يلتوي..يتساقط..يصعد..ينزل..بصخب ربما..بهدوء ربما...
أغنية تنتقل من حلبة في اشبيلية لتطوف العالم كله....هكذا كان موت اغناثيو وهكذا صار...فكيف كان موت ذلك الرجل الذي جعل موت اغناثيو أغنية يرددها العالم كله؟...أين قتل؟..من قتله؟...لماذا قتلوه؟.
يليه الجزء الثاني والاخير.