يقف عند الحاجز يفتش السيارات يفحص الهويات و يرد السلام ، يراقب الوجوه ، يوزع الأبتسام و يمنح العيون الأمان ..نسي منذُ متى هو على هذا الحاجز لدرجة صادقه فيها ، أحبه ، عشق تفاصيله ، فحياته كلها معلقة على هذا الحاجز ، و مع كثرت الحواجز في هذا الوطن أمنية كانت أو غيرها
تصبح الحواجز بكل أشكالها جزء من يومياتنا و من يومياته ..مناوبته هذه الليلة طويلة والبرد قارس , أصدقائه في الحاجز أبو صخر وإلياس وجعفر أوقدوا حطباً داخل صفيحة لتمنحهم بعض الدفء ، ذكره المنظر بقريته و لمة الأهل و الأحبة عند موقد الحطب ، و تدفقت الذكريات في خاطره و أنبعث معها الشوق و الحنين ..
فهو منذُ أن غادر في آخر أجازة له قبل ستة أشهر لم يعد
للقرية ، شالها الصوف الذي يطوق عنقه و رائحته
العطرة يحمله بالذاكرة الى شيماء بنت العم و الخطيبة
فلقد كان من المفترض أن يتزوجا هذا الصيف لكن بسبب أوضاع البلد الحالية تأجل العرس
لأجل غير مسمى ..
مع هبوط الظلام ساد الصمت المكان و زاد البرد من وحشة الزمان و خف أزدحام السيارات
و المارة ..
ناداه أبو صخر ليستريح قليلاً و يشرب بعض الشاي فرفض ، أقترب منه و سأله : ما بك ؟!
رد بصوت مبحوح : لا شيء ، تذكرتُ شيماء ..
ربت أبو صخر على كتفه و قال : لا عليك يا صديقي خفف من روعك ستتزوجا و تنجبا لنا
الأطفال ..
أبتسم نصف أبتسامة لأبو صخر و لكن كلماته المشجعة لم تؤثر فيه أبداً ،
فإنه على يقين أنهم هنا جميعاً مشاريع شهادة هو لا يخشى الموت ويتمنى أن ينال
الشهادة في سبيل الله ،
و يعرف أن وجوده هنا ضروري ليحمي الأرض و العرض و يزود عن الوطن ..
لكنه لا يستطيع أن يمنع نفسه عن التفكير في اللذين يحبهم و في شيماء ..
اللحظات تمر ببطء شديد و كأن الوقت تجمد من شدة البرد ..
الذاكرة تنتعش و تعود به الى الوراء الى لحظة ألتحاقه بالجيش منذو سنتين تقريباً ،
ففي قريته المنفية لا يوجد سوى خيارين أمامه أما الزراعة أو الجيش حتى يعيش ،
فقال في نفسه : إذا الأرض بخلت علينا بالمواسم فهي لم تبخل علينا قط بالكرامة ..
الذاكرة تفيض بالمشاعر فيتحسس صورة لشيماء خبأها تحت الدرع في جيب القميص لتبقى
قريبة من قلبه ،
فتطفر الى عينيه دمعة تحمل حرقة شوق و حنين الى القرية و الأم و الحبيبة ..
فجأة صوت رهيب يقطع شروده و يبدد الظلام و يكسر الصمت ، يتعرض فيها الحاجز الى هجوم
إرهابي ..
الرصاص في كل مكان ، الدماء في كل مكان ..
يأخذ موقعاً متقدماً بعض الشيء عن زملائه خلف ساتر من أكياس ترابية ،
يضغط على الزناد و يطلق النار على الأعداء و الأعداء تتساقط أمامه و فيما حوله ..
الذاكرة تغلي ، نهارات بيضاء أمام عينيه ، بعيونهم سيرى الوطن النهار ، وستشرق شمس
النصر ..
و فجأة تترئ له صورة شيماء جميلة ساحرة في فستان عروس و صور غزيرة أخرى أغلبها جميل
و بعضها حزين ، و كأن حياته كلها أختصرت في شريط صور ..
و يا رفاقه و يا شيماء ..
حين يسمع صوت دمه يخبط بالأرض ، سيقع حتماً و هو في عز تحليقه ، سيحيا كحربة في
عيون الأعداء ،
فجأة سيرى كل شيء ينبض بالكبرياء و يصدح بالكرامة و سيرى راية الوطن خفاقة عالية
تغمرها الشمس ..
.
في ثياب الشهيد وجدت صورة لشيماء معجونة بعرق و دم كتب خلفها :
" زغردي يا شيماء و لا تنسيني خبيني بقلبك و بعيونك دفيني و أفتخري دايماً و قولي :
أبن عمي شهيد ..
زغردي يا أمي و لا تبكيني لفيني بعلم هالوطن و بعرس ودعيني و أرفعي راسك و قولي :
أنا أم البطل أنا أم الشهيد "