أكثر ما يضحكني استهجاناً و نفوراً عندما أكون شاهداً على حوار بين مجموعة أشخاص يعتبر فيه البخيل نفسه نداً للكريم على أساس أن كلا منهما وجهة نظر , وكذلك يعتبر فيه النذل نفسه نداً للشهم و كل منهما وجهة نظر , ويعتبر فيه الفاسد نفسه نداً للشريف و كل منهما وجهة نظر
وكذلك المنافق ندٌّ للمبدئيّ وهو وجهة نظر والعميل ندٌّ للمقاوم وهو وجهة نظر والقذر ندٌّ للنظيف والجاهل ندٌّ للعارف والمفرّط ندٌّ للحريص والرخيص ندٌّ للأصيل والتابع ندٌّ للسيد وكلّ واحدٍ منهم وجهة نظر تجاه نقيضه وله نفس الثقل والكيان والموالين والأتباع وكأنّ ميزان القيم والمبادئ لم يعد موجوداً بل استبدل بميزان ذو كفّتين لا يستقيم إلّا في حال وضعت القيمة الإيجابية في كفّة ونقيضها في كفّة أخرى ولا يرجح إلّا بكفّة نقيضها وكأن الحياة لم تعد ممكنةً إلّا إذا رجحت الكفّة الشاذة على حساب الكفّة السويّة.
منذ الأزل ومنذ أن وجدت الأسطورة وبدأت تتطوّر طرداً مع الزمن كان هناك مديحٌ
للصّدق والكرم والمروءة والشهامة والوفاء وجمال الروح وطيب النفس , وكان هناك هجاءٌ
للكذب والبخل والخسّة والنذالة وسوء الخلق , ومنذ الأزل كانت غاية البشر السلوك
القويم وكان هناك سلوك معوجّ لا يرغب به أحد. ومنذ الأزل كانت المجتمعات البشريّة
تؤكد على السلوك القويم وتنفر من السلوك المعوجّ , ومنذ الأزل كان القويم يشمخ
برأسه اعتزازاً وكان المعوجّ يطأطئ برأسه خجلاً , ومنذ الأزل كانت المجتمعات تتفاخر
بالقويم منها وتأتمر بأمره , وكانت تحاصر المعوجّ فيها وتحاصره وهذا الذي جعل
المعوجين في كثير من الحالات ينافقون ويلبسون لبوس القويم والقيّم ليقدروا أن
يحتلّوا مطرحاً في الحياة.
أمّا الآن وياللمسخرة فقد صار الكاذب يجاهر بكذبه الأسود (تحت صيغة الكذب الأبيض )،
وصار النذل يتباهى بنذالته (اللي بياخد أمّي بناديلو عمّي) ، وكذلك السارق(حلال
عالشاطر) ، وكذلك العميل والمستسلم(محبٌّ للحياة) ، وأيضاً الخسيس (الأرض الواطية
بتشرب ميتها ومية غيرها) ، وصار التاجر يتاجر بكلّ شيء حتّى وطنه , ورجل الدين يدعو
إلى الحاكم وينسى الله إلّا إذا أراد الحاكم , والحاكم صار مقدّساً كيفما فعل وقام
وقعد ، وخصم التاجر تاجر مثله يبيع ويشتري ، وخصم رجل الدين شيخ أو كاهن أو حبر
مثله يدعو لرب آخر أقصد لحاكم آخر ,وعندما يضحك الحاكم فعلى العباد الضحك وهم
مطأطئون , وعندما يعبس فعلى العباد العبوس وهم مطأطئون , والخائن من يرفع رأسه
مستوضحاً فليس من حقّ أحد أن يرفع رأسه لا في وقت بهجة الحاكم ولا في وقت غضبه
فهذان الوقتان غير مناسبين للتعكير أو التفكير.
أيتها السيدات أيها السادة:
أستحلفكم بإنسانيتكم المهمّشة أليس شرّ البليّة ما يضحك؟
حكاية حقيقية أولى:
كان في الثامنة من عمره (في صيف الصف الرابع ) ، كان يبيع في مكتبة والده في شارع
القوتلي آنذاك ، دخل رجل مصري ليشتري مجلة الموعد وكان ثمنها نصف ليرة سورية وقتذاك
، لكن الرجل المصري أصرّ أن يعطي ابن الثمانية ثلاثة أرباع ليرة سورية قائلاً:
(عشانك يا عريس).
سجّل على دفتر المبيعات - مجلّة الموعد -75- ق.س وعندما أتى والده وفتح دفتر
المبيعات انتبه أنّ ولده قد باع المجلّة بما يزيد عن سعرها الحقيقي ب 25 ق.س وبعد
أن استوضحه عنّفه ورفض أعذاره وأيمانه بأنّ الرجل قد أصرّ على دفع الزيادة. وفي باص
العودة إلى القرية قال لولده: ما عاقبتك يا بابا لأهينك ، عاقبتك حتّى لا تتعوّد أن
تأخذ أكترمن حقّك.
حكاية حقيقية ثانية :
دخل إلى المكتبة ثلاثة رجالٍ تبدو عليهم النعمة والراحة طالبين عرضاً للأسعار لكمية
كبيرة من القرطاسية لإحدى مديريات المدينة بينما كان هو يرتَب الدفاتر على الرفوف ،
وفجأةً انتفض والده رافضاً إعطاؤهم أيّ عرض ومتّهماً إيّاهم بسرقة المال العام
والدّناءة واللّصوصية ، فخرجوا جافلين بعد أن قال أحدهم بصوت واطئ: نحنا جايين عندك
لأنّو منحبّك وبدنا نفيدك ونستفيد. سأل أباه: لماذا طردتهم يا بابا؟؟ أجابه بحزم:
هدون حراميّي يا بابا وأنا ما بدّي رزق حرام.
ارتفعت أجرة الباص من 7 فرنكات إلى 10 فرنكات (نصف ليرة). طلب منه أهل القرية السعي
لدى أصحاب القرار لإلغاء الزيادة. رافق أباه إلى عند مدير المواصلات الذي عاتب أباه
لأن هناك تقاريروصلت الى أعلى مستوى تؤكد أنه يحرض الناس على الدولة بسبب ذلك .
فردّ عليه الأب: يا حضرة المدير هل نسيت جذورك ومبادءك التي أوصلتك أنت وأسيادك إلى
هذه المناصب؟؟. سأذكرك بأن العرب قديماً كانت تعبد آلهةً من تمر ، وعندما جاعوا
أكلوها .
كبر الولد و بلغ من العمر عتيا , واعتاد أن يسمع جملا تكاد تكون اتهامات بكل ثبات :
راسك
يابس , ليش هالتعقيد , خالف تعرف , شايف حالك , مفكر حالك نبي ,
وكذلك اعتاد أن يشمخ برأسه عندما يقول له الأوادم : ما الك منية ,الك أب.