news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
الشحن الانفعالي وفاصل الألم ... بقلم : عمرو طربوش

جلس المغبون بقرب جميلته مفتتناً بجمالها يصغي لها إصغاء طالب أبله لأستاذ بليغ ،  وهي بدورها تغير نظرته للواقع المحيط بما يتناسب مع هواها وآمالها وأحلامها ، ذلك هو أجمل مفهوم أصف بها تلك الوسوسة ، وذلك هو أهم سبب من أسباب التمرّد ، إنه الشحن أو التعبئة – على لغة الجيش – أو الطنبرة – على لغة العامة ، كتعبئة وعاء فارغ يتعطش فراغه إلى الامتلاء دونما قدرة على تمييز ما يتناسب مع سعته وقدرته وهواه .


فالشحن الانفعالي هو استمرار إدخال معلومات – قد تكون صحيحة أو خاطئة – تتعارض مع الواقع بشكل غير مقبول لتصفه بشكل مزر من المستحيل أن تطمئن له النفوس مع اللعب على أوتار العواطف وإحياء الغرور ، ولا يثور الانسان على هذا الواقع إلا عندما يصل غليان ميزانه إلى فاصل ألمه ، و يختلف هذا الفاصل من شخص لآخر ، واتخاذ القرار بالمضي قدما في التمرد  يتضمن موازنة الخسائر والأرباح والتكاليف مع دراسة سريعة للفرص وعوامل القوة تختلف من شخص لآخر وفق براعته في حساباته الرياضية وحكمته العقلية

 

 لذلك فأول من تراهم يثورون هم الذين ليس لديهم ما يخسرونه وهم البروليتاريا المتشردة وهم بطبعهم ذوي بأس في النضال ميالون للتخريب –كما يصفهم ماوتسي تونغ-  ليتبعهم من قنعوا بالمكاسب والآرباح أو على الأقل تقليص التكاليف والخسائر ، وهنا أيضا عوامل أخرى لا يمكن إغفالها كتأثير الضغط الاجتماعي ؛ كصعوبة الوقوف على اشارة حمراء في الوقت التي تسير فيه جميع السيارات ولا تتردد في استخدام الزمامير وإطلاق شتى أنواع المسبّات لمن قرر أن يستمر في الثبات  ، وكدراسات أثبتت أن في ظل الضغوط المتزايدة على الحياة اليومية ؛ أصبح اتخاذ القرارات بشأن معين مرتبط بعوامل كالإجماع والإعجاب والقوة والاتساق والظن بنفاذ هذا الشيء أو وقت الحصول عليه ، أكثر مما تتعلق بمجموعة المعلومات والقواعد المنطقية والتقارير المفيدة في اتخاذ قرار بهذا الشأن أو ذاك .

 

وعملية الشحن عادة تتم إما عن طريق مصدر خارجي له أهداف يسعى لتحقيقها بواسطة الشخص المشحون  قد تكون لمصلحة الطرفين على السواء ، أو لمصلحة هذا المصدر فقط ؛ تعرف نفسها بأنها عملية  استغلالية تكرّس من استغنوا عن عقولهم في سبيل من تتزايد أطماعهم .

 

وإما عن طريق الشخص نفسه والأصوات التي تدور في رأسه تزدري حاله وتقنعه بأفضليته وتستثير عواطفه لتغيير حاله بما يتناسب مع إمكاناته ، أو لتغيير حال غيره فيهب لنصرته والذود عنه ، إذ يحزّ حاله في نفسه ويقض مضجعه..

 

فالموظف الذي يأخذ راتب معين في شركة ما سوف لن يغير واقعه إلا إذا أقنع نفسه أو أقنعه غيور على مصلحته أن الراتب الذي يتقاضاه من هذه الشركة أقل بكثير مما يتناسب مع قدراته وإمكاناته وكفاءاته ؛ وطبع الإنسان الخمول الكسول الذي يكره التغيير سوف لن يحفزه للسعي لتغيير  هذا الحال إلى أن يرى صورة في مخيلته أو صورة لحال غيره فيسعى لها عندما تتفاقم الحاجة في نفسه مع الأخذ بالاعتبار لفاصل الألم والعذاب .

 

وببساطة  فاصل الألم هو حالي في إحدى الأيام التي كنت أنتظر سيارة أجرة في الشارع كالملهوف والمطر منهمر يصعب معه الوقوف ،  وآخر المعلومات عندي أن سيارة الأجرة تتقاضى 300 ليرة للبغية التي أقصدها ، وحين أشرت لسيارة لإنشاد تلك الضالة ، وطلب مني 500 ليرة لم أوافق ؛ فبالتالي إنني لم أصل إلى المرحلة التي أن مستعد فيها لدفع هذه التكلفة لقاء هذا الترف والسعادة ، ولا مانع لدي من المشي إلى بغيتي على أن أتعرض لهكذا استغلال  . وإذ رفضت ما رفضت ،  رفضته مع علمي بالبغية التي أقصدها وقدرة السائق على إيصالي إليها ، فما بالك إن رضيت و  لم أكن أعلم بغيتي ولا أثق بقدرة مخلصي ، أفأكون كضارب حجر في العماية ؟

 

ونسبة لهذا المثال إن قوة صاحب هذه الحاجة في فرض قوانينه تتناسب مع فاصل الألم وبدون تفاقم هذه الحاجة إلى حد لا يمكن قبوله لن يتمتع من يستطيع تلبية هذه الحاجة بالقدرة على فرض قوانينه ؛ ولكن قوة صاحب الحاجة ليست قانونا راسخا  ، وبالاستحياء من شوبنهاور فصاحب الحاجة يتمتع بأمل الحصول عليها طالما أن احتمالات تحققها مازالت موجودة في نفسه ، ولكن هذا الأمل يبدأ بالتلاشي  بتتالي الكوارث والصدمات التي تطعن باحتمالات تحقق هذه الحاجة مع عدم القدرة على دفع التكلفة  التي يطلبها مالك الحاجة ، ليصل الإنسان إلى مرحلة اليأس .

 

 وهنا في هذه المرحلة يكمن الفرق بين الإنسان والحيوان لما يمتلكه الإنسان من قدرة على مخاطبة نفسه انفعاليا واستثارة عواطفه مما يشحنه بطاقة قد تحوله  لمجرم قد يتناسى الحاجة المطلوبة في سبيل تحطيم مالك هذه الحاجة التي منعها عنها ؛"هنا يشير لورينتس بمثال يوضح هذه الحالة : وهو أن العدوان على الذئاب مثلا لا يدوم بقدر ما يدوم العدوان عند الإنسان ، فالذئاب تتقاتل بكل شراسة ، ولكن إذا تقاتل ذئبان ورأى أحدهما أنه مغلوب ولا محالة فإنه يقوم في الحال بإجراء حركات استرضائية وينهي القتال . وليس من العادة أن يستمر القتال حتى الموت ولا أن يعدو الذئب المظفر على أنثى الذئب المغلوب وجرائه . ولعل السبب في ذلك أنما الذئب إنما يقاتل فحسب ، ولا يتحدث فيما بعد للذئاب الأخرى ولا لنفسه ، وليس لديه لغة مشحونة بالانفعالات يستطيع بواسطتها أن يبقي دوافعه العدوانية ناشطة فعالة حتى بعد أن يكون السبب المباشر للعدوان قد انقضى " *

 

نعم فالشحن الانفعالي له دوره ، ولكن لن يكون هذه الشحن إلى نتيجة لغرور الانسان وفوقيته وعدم رضوخه لما هو خارج عن إرادته ،  إذ هو سبب ترديه حاله مذ وُجد  .  و يقول شوبنهاور فيما وصفت : "إن الأذى الذي يصدر عن الآخر له مذاق مر غريب إضافة إلى الألم نفسه ، وذلك لوعينا بتفوق الآخر علينا وإحساسنا بالعجز. والتعويض إن وجد يمكنه أن يبرّئ الجرح ؛ إذ أن المضاف المر والإحساس ( بأن هذا ما تحملته منك )  يزيد عمقا في الجرح عن الأذى نفسه و لا يمكن تحييده إلا بالانتقام لنؤكد لأنفسنا تفوقنا مجددا على من آذانا ، إذ يتوقع أن ينال القلب الرضا الذي كان يتوق إليه ، فلا يوجد الانتقام إلا بوجود الكبر الكثير والغرور العظيم .

 

وحينما تتحقق هذه الرغبات تكشف عن نفسها بأنها ليست سوى مجرد وهم من الأوهام ؛ وكذلك الانتقام ، فالسعادة المرجوة منه عادة ما تنقلب إلى مرارة بتأثير الشفقة اللاحقة التي سوف تلم بنا حتما . وحقا فإن الانتقام الماضي عادة ما يفطر القلب لاحقا ويشقي الضمير . سوف يموت الإحساس بالدوافع التي أوصلتنا لهذا ولكن الدليل على استقرار الشر فينا سيظل ماثلا للعيان."

 

عزيزي القارئ ؛ حتى لو كنت أتعارض مع مفهوم الثورة -والمسلحة تحديدا- لظني بأنه مفهوم لا عقلاني ولكنني قد احترم هذه الفكرة البراقة ، ولكن حين يتعلق الأمر بمصلحتك الشخصية فأنت مسؤول عما تصل إليه من حال وعلى تبعات اتخاذك قرار ثورتك على حالك أو تمردك على واقعك ، حالك حال الموظف الذي استقال من شركة او طلب الزيادة لحصوله على راتب متدني لا يتواءم مع كفاءاته ،أما في حال تعدي الأمر مصلحتك الشخصية واتخاذك قرارات مؤثرة على مصالح باقي الناس فهو أمر تتعرض فيه للمساءلة ولا شك  ، فكل المحاولات من قبل ذاك الموظف لتدمير الشركة التي تعيل بقية الموظفين وتهدد استقرار حياتهم هي محاولة معرّضة للازدراء والنبذ من كافة الموظفين سواء كانت نتيجة وسواس غرر بذلك الموظف أم فتنته حسنائه أم أصابه مس وجنون .

 

وكذلك حين تخوّل نفسك أن تقوم بمحاولة تغيير نظام يحكم 23 مليون شخص فأنت ملزم بتأمين البديل و أن تكون عارفا للنظام الذي يجب أن يحكم هؤلاء الأشخاص على جميع الأصعدة ( الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعسكرية ) لتخديم كافة طبقات المجتمع وكافة المناطق التي كان يحكمها هذا النظام .

 

 ومنذ اللحظة التي خولتك نفسك لتكون وصيا ساهرا على مصالح الشعب – وليس لتحقيق مصالحك وأهدافك الشخصية  أو تغرير ووسوسة أو جنون وهذيان –قد لا تكون فقط تتشارك المسؤولية مع النظام بل ألغت المسؤولية عن -  بنشرها الاضطراب والفوضى بكافة مؤسسات الدولة- وكلفت نفسك بها ؛ عن أمان هذا الشعب المائي والعسكري وعن تردي حاله الثقافي والاقتصادي وسير حياة الطفل والعامل ، الرضيع والحامل . وقياسا للحال الذي وصلنا إليه بعد سنتين من الجعجعة وغياب الخطاب وعدم وجود فعلي لطبقة فكرية أو قيادة مسؤولة تتبنى الحراك وتردعه عن أخطائه ، فلا غرو أن يزردي المجتمع حركة التمرد هذه  أو ينبذها برؤسائها ومرؤسيها ، ومشجعيها ومن سار فيها

 

 ولا أرى بدا من التطرق لقول الشاعر :

  كالحوت لا يرويه شيء يلهمه . . . . . . يصبح ظمآن وفي البحر فمه

 

فالشاعر قام بتشبيه  أحدهم بالحوت ، والذي يفترض وجود في الماء دليل على   ارتوائه ، وعدم خروجه منه دليل على عطشه ،  فالسؤال لكل من يتبنى الحراك :   بعد وصولنا للمستنقع الذي نحن فيه وبحر الدماء الذي طال الجميع ، كم هو مقدار الخراب الذي نريده بعد ، وكم هي كمية الدم التي من  الممكن تروي أحقادكم وجشعكم .. ؟ ومتى ستعترفون بقصوركم وعجزكم .. ؟

 

ولكي لا أرفع المسؤولية في الحال الذي وصلنا إليه عن باقي فئات الدولة والمجتمع أختم بقول غوستاف لوبون   "عندما تفقد القوى الاخلاقية التي تشكل هيكل المجتمع زمام المبادرة من يدها .. فان   الانحلال النهائي يتم عادة على يد الكثرة اللاواعية والعنيفة التي تدعى عن حق   البرابرة "

 

___________________________________

* مقطع الذئاب مقتطع من  كتاب التفكير الأعوج والتفكير المستقيم

 

2013-05-30
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد