تفني المرأة حوالي العشرين عاماً لتصنع من ابنها رجلا ، فتأتى امرأة أخرى لتجعله أحمق في عشرين دقيقة . قول شائع لا يخلو من الصحة ، وكذلك يغري للتحليل والاستنتاج وعرض ما يتلاءم وما عليه الحال :
نستنتج أولاً أن المرأة مخلوق عظيم وكيدها أعظم ، ثم أن الحماقة عملية إرادية ، وجميعنا يمتلك القابلية ليصبح أحمق . و أخيرا أن عملية البناء تحتاج إلى صبر وتجرّد و جهد بالإضافة إلى الوقت ، أما عملية الهدم فهي سريعة ولا تحتاج إلا إلى أشخاص مستعدين للاستغناء عن عقولهم من أجل أهوائهم ، بالإضافة طبعا إلى حاجتهم إلى من هو قادر على تسييرهم واستغلالهم بالشكل الأمثل-بما أنهم قد استغنوا عن عقولهم سلفا .
وقد ينظر بعض الناس إلى هذا الاستنتاج بنوع من التعاطف أو ادعاء المظلومية ، ولكن العاطفة وحدها لا تكفي في هذه الحياة ، فوضع الأمور في صورتها الحقيقية هو الوحيد المفيد للارتقاء والتقدم ، كما أن الاعتراف بوجود الأوساخ على زجاج الأمامي لسيارتك هو الوحيد الذي سيبعدك عن الصدمات .
فإن الصعوبة بالغة أمام رجل يمشي في طريق مليء بالزجاج المكسور الذي أدمى قدماه ، أن يلوم على حاله المرثي من قام بإهدائه حذاء قبل أيام ، لذلك تراه يتهرب من الاعتراف بخطئه و يسعى للبحث عن أعذاره . وكذلك مُيّز البشر عن باقي الحيوانات بالعقل ، واستغناء الإنسان عن عقله في سلوكياته سيجعله في مرتبة من مُيّز عنهم ، وبما أن الوجود مراتب والمراتب الدنيا سخّرت لما هو أعلى منها ، فمن الطبيعي أن يسخّر هذا الكائن لمن استخدم عقله وكان أعلى منه مرتبة ؛ وبذلك يكون كالمغبون الذي باع آخرته بدنيا غيره ، وقد أشار التنزيل لمثل هؤلاء بقوله تعالى " وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "
هذا في ما يتعلق في الهدم ، أما البناء والتطور فهو عملية تسلسلية مستمرة منذ أقدم العصور ، وإن كانت بداية هذه العملية هي الحاجة -والحاجة أمّ الاختراع - فالانسان احتاج ما يدرء به الخطر عن نفسه من الحيوانات الضارية فقام بالبحث عن شيء يخيف به هذه الحيوانات إلى أن رأى في النار ضالته المنشودة . وحاجة الانسان إلى ما يهديه في الصحراء الواسعة دفعته إلى البحث والتقصي والتجريب ، إلى أن استطاع ان يرى في النجوم بوصلة تهديه شمالا أو جنوبا ، شرقا أو غربا .
وبعد توالي الأفعال التي حققت نجاحات وتحولت إلى إنجازات وتراكم المعارف ، قام الإنسان بالبحث عن طريقة لاختصار الزمن على الأجيال القادمة ، ودعت الحاجة إلى ارتقاء البشرية كان أحد الأسباب لابتكار اللغة وتطويرها لتدوين ما وصل إليه الأقدمون عسى أن يقوم بإكماله اللاحقون في سبيل تطور الحضارة وسعادة البشرية .
وهنا نرى ان إدراك الانسان لحاجاته مع إيمانه بقدراته دفعه إلى البحث والتقصي والسعي لتسخير الطبيعة و استغلالها في سبيل تلبية مطالب استمراره ، وإن كان هذا التقدم إلا نتيجة إدراكه إلى ضرورة التعب وبذل الجهد . وهناك من يرى أن الكسل روح التقدم ، ويتغافل عن حقيقة ألا و هي أن الجهد والتعب هو أقصر الطرق للتقدم ، فالسباح الماهر الذي يبتغي وجهة يجب أن يقاوم الامواج ليختصر الوقت ، وإن هي إلا ثنائية أشير إليها في قوله تعالى : " إن مع العسر يسرا "
وإذ نشيد بأسبقية العرب أو المسلمين للتوصل إلى بعض العلوم والنظريات فنحن لا نطعن ببقية الخلق ، فالمجد حتى في عالم الفكر هو نتيجة الجهد والتعب المبذول للوصول إلى المنبع الثري الذي ينعش الروح ، وتشييدنا بمنجزات أجدادنا هو لا لشيء إلا كي نسير على خطاهم في بذل الجهد والتعب الذي بذلوه ؛ فاستحقاق ريادة العالم لا يأتي إلا ببذل الغالي والرخيص ، لا بالتشدق والتمجيد أو القول دون العمل .
فحين تتدحرج الكرة إلى هدف ما قد تتعرض للعديد من العوامل والعقبات التي قد تثنيها عن وجهتها وتحدد الطريق لها ولا مانع لديها ، ولا تستطيع لومها فهي مجرد كرة ولن تسير إلّا نحو الأسهل . أما نحن كبشر فمع توافر القدرة على إدراك العقبات وتحديها فجميع الأعذار ليست مقبولة ، "بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره "
وقد أشار ابن سينا أن الحركة المضادة للطبيعة كمشي الإنسان تحتاج إلى قوّة محركة زائدة على الجسم هي النفس ؛ وهذا قانون التقدم ، والأكيد ان هذه القوة لن تأتي من الكسل ، وإذ أضيف؛ على أن هذا التحدّي لقانون الجاذبية لن تقوم به النفس إلّا بعد توافر الصورة التي تسعى إليها سواء كانت وهمية أو حقيقية .
وإذ يأتي إنسان ويضرب الأمثلة في تمثل التقدّم بالآلات والتكنولوجيا التي تسبب الرفاهية ، فكلنا يعلم أن وظائف هذه الآلات كان الإنسان يقوم بها ، ولم يقم الإنسان ببرمجة هذه الآلات إلا بعد أن أصبحت وظيفته تكرارية بحتة ، وتسليم هذه الوظيفة لهذه الآلة لم يكن إلا لأنها أصبحت وظيفة تكرارية بحتة ، فكان من باب توفير الوقت لعمليات عقلية على مستوى أعلى تفيد في تطوير هذه الوظيفة أو الالتفات لوظائف أخرى .
ولا أستطيع أن أعتبر الكسل إلا وسيلة للاستغلال وللإبقاء على القصور " فالكسل والجبن هما السببان في ان عددا كبيرا جدا من الناس يفضلون البقاء قصرا طول حياتهم بعد أن حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من أي توجيه خارجي " كما يقول كانط ، وهو ليس إلا مرض نفسي أصاب الأمة بمجملها ، " فاعرضوا على امرئ صحيح الجسم والعقل أن يجلّس منعما ويكفى كل ما يحتاج إليه بلا سعي واستحقاق فانظروا هل تقبل نفسه ذلك ، بل ستجدونه بالقليل عما يناله بالسعي والحركة أشد سرورا واغتباطا منه بالكثير مما يناله بلا استحقاق " وهذا الربط بين صحة الجسم والعقل والسعي والحركة هو قول للجاحظ في "الدلائل والاعتبار" وهو الختام في هذا المقال .
قد يتبع ...