كانت رحلة اعتيادية الى العمل, ركنت سيارتي بجانب المحطة, تجنباً لمشقة قيادة السيارة, نظرت الى الشاشة الالكترونية, توجه نظري الى رحلة بروكسل لم يكن مكتوب بجانبها أنها رحلة العمر, رحلة من أجمل الرحل, صعدت الى القطار, واتخذت موقع بجانب الشباك, أنا أعشق الطبيعة من وراء نوافذ البلور لأرسم في مخيلتي أشياء لا أستطيع فعلها أو حتى تخيلها على أرض الواقع, فاتخذ من سلاح الخيال ملجأ واستمتع بلذاته الفريدة.
اهتز المقعد معلناً بداية الرحلة, مطر في الخارج, ودفء في الداخل, هنا تكمن اللذة, هنا بدأت الحكاية نظرت الى الأمام, بعد الحاجز المعدني, كان هناك ملاك يصلي بصمته, ينادي اليَّ بعينيه, يقول انظر اليَّ وتمتع بصورة, أبدعها الخالق, ظلمة السماء, انعكست على الأشجار المتسارعة من جانبيَ, ليظهر ذلك اللون الفريد لينبثق من عينيها, ويصدر اللون الذي أعشق, شعرها سبق شعر الغجرية صاحبة عبدالحليم بطوله, اكتسى لون الكرسي البنيّ, ليرتاح على المنصتين الفريدتيّن, لعلي كنت لا أهتم بالأزياء لكن بعد هذا الموقف صرت انافس المصممين بذوقي, علمتني درساً مهماً في تذوق اللباس وانتقائه, عشقت المشهد عايشته, وصلت الى قمة اللذة النقيّة, ارتشفت من نهر الجمال حتى آخر قطرة, ولم أرتوي.
حاولت اخفاء رأسي لأسرق النظرات, فتجاهلتني بلطف, لكن بسرعة البرق لفت نظري الى البلور فانعكست صورتها, فكانت تنظر اليَّ, أو كنت اتخيل أنها تنظر اليَّ, لصمتها ثقافة, لابتسامتها سر, حاولت اختراقه, عبثاً لم أنجح, مسكت ورقتي محاولاً التعبير, خذلني هول الموقف, وابداع الخالق.
عندما تحرك يديها بهدوء, تناغمت يديها مع احساسي ومشاعري الليَّنية, كأنها المايسترو, و وجداني ودقات قلبي هي آلات موسيقى, لينتج عزفاً فريداً لم اسمعه قبل ذلك, لو كانت المشاعر تنسخ على نوطة عازف لسبقت بتهوفن, لصرت أشهر مبدع.
حاولت رسمها ولست برسام, فتركت القلم مستسلماً فصورتها لا تبتعد كثيراً عن صورة الحسناوات, هي موناليزا بنكهة خاصة, بابتسامة سبقت ابتسامتها بآلاف الأميال, الشيء الذي يميزها, شريطي السماعات ليُعبر عن الحداثة ويجعلني أجزم أنني أعيش الواقع, التفا الشريطين الأبيضين مع شعرها, ليصبحا قصيدة حاولت قراءتها دون جدوى, استلمت للموقف, استسلمت للمسرحية.
راودتني أفكار كثيرة, أردت التكلم معها, عرقلتني اللغة, تذكرت قصة قرأتها, على أن الحب لا يحتاج الى لغات, لا يخضع لجغرافية الحروف, و يسبق روح العصر المتمدّن, الروح الشرقية منعتني بعدما تجاوزت حاجز اللغة, تذكرت محيطي الصلب, أفكار الأخ والأخت, تصرفات جيراننا, صوت بائع الكعك, دعاء الأم توصيات الأب, معاملة الأقارب, سمعتي الشخصية, هدفي في الحياة, احترس من بلد الكفر, أصوات المآذن هدير محركات الصباح, أجواء التعازي والتهاني, طهور الأطفال, بكاء الصبيان, صوت استاذ الصف توصيات الموجه التربوي, فوقفت عند هذا الحد ولم أجرؤ على فعل ذلك, فالتقدم الغير مدروس نتيجته الفشل الذريع.
أرادت النزول, وصلت مدينتها, دق الفرس الأصيل برجليه أرض القطار, ليصدر ايقاعاً غريباً شدَّ كل المسافرين, تركت القطار, ذهبت وما ان وضعت رجلها أرض المحطة الأثرية, حتى شعرت بأحد يوقظني فأذا هو الكونترول, يطلب مني بطاقة السفر, فسألته هل كنت نائم, فاجاب نحن لم ننطلق بعد.