أعاننا الله في كَبَرِنا, جملة نطقت بها جدتي و ما زال صداها ساكن في أذنيَّ, تكاد لا تفارقني منذ أن فارقت العَجوز الحيــــاة, لم يأتي كلامها بمحض صدفة, أو مجرد ثلاثة كلمات انطلقت من فمها, أعطاها الله الحكمـــة و علمها أشياء لم أكن أعرفها عندما كنت طفلاً.
كل يوم أرى فيها صاحبة أو صاحب عُكاز, يتبادر الى ذهني ماذا سيحلُ بي عندما أقارب بعمري أعمارهم, و اقترب من الحفرة, التي كلنا اليها ذاهبون, لكن اطمأن قليلاً, لأن على يقين أني أحسن الى والديّ, و كما أحسنت اليهما, سيأتي أولادي ليكملا مسيرة الأب دون تردد.
لكن أخاف أن تأتي الأمور بعكس ما أشتهي, و أن ينتهي المطاف بالدار الظلماء, أو ما تسمى دار العجزة, لعل أبشع ما فيها هو أسمها, لعبة القدر, لعبة مجنونة, الأمير في يوم من الأيام يعلق خائناً على حبال الأوغاد, و الغنيّ في ساعة نحسن, قد يخسر, و لكن الخاسر الأكبر حين يتخلى الولد عن والديه.
في تجربتي التي أعيشها, في بلاد الغرباء, أوروبا صاحبة الشعارات, اراقب مشاهد عديدة عن العجزة سواء في مساكنهم الخاصة و في الطرق العامة, يلجئون الى شراء كلب ليرافقهم, ليتمشى معهم, فقدوا ما يسمى عطف الأبناء على الآباء, لعل الكلب في هذه الأوقات يعوضهم عن بر أبنائهم.
سبحان الله نتعلم من أوروبا الأشياء السيئة فقط, كدور العجزة مثلاً, و نتناسى أشياء كثيرة, كحب العمل و احترام الوقت و المواعيد, مفارقة غريبة عجيبة, و حياتنا تمشي حائرة حزينة.
لكن لنقف لحظة بسيطة, لعل الرمد أفضل من العمى, قد تكون حياة الشيخ في مأوى العجزة أفضل من العيش تحت نيران الكنّة, ذلك عندما يختفي الرجال في ظل التواجد المبالغ فيه من شريكة العمر, خضراء الدمن, رزقنا و أياكم من بنات المنبت الحسن, مكملة نصف الدين.
الكبر عبر, مثال شعبي في بلدنا, يعبر عن حالة اليأس في السنين الأخيرة من حياة كل انسان, فبدل أن نكون الرفاق الأبناء, نصبح الوحوش الأوغاد, نترك من ربانا يائساً فوق يأسه بين جدران المؤسسات, كما ظلمتم سوف تُظلمون كلام ليس من عندي, كلام حفظته من محيطي و عايشته و سمعته من حديث الكبار, أكثر من مثال, حين يتحول الولد الى تمثال, ثم ينقلب الى كهل منهار و كما قيل كما تدين تدان.
لا أريد الغوص في متاهة الحلال أو الحرام, لكن الصح واضح و جليّ و الخطأ يراه حتى الغبيّ, بر الوالدين أعظم شيء و هو ما وصانا به الخالق, لا تجعله كلاماً مارق, حاسب نفسك قبل أن تُحاسب, و البقاء للأسمى.