*أحفاد اليوم هُم من أجداد الأمس الذين مزّقوا
شبه الجزيرة الكورية، ورسموا الحد الفاصل بين شطري كوريا.. أحفادهم أنفسهم هم من
يرسمون اليوم داخل سورية حدود التفتيت.. ما أشبه اليوم بالبارحة.. فأحداث التاريخ
لا تتكرّر ولكنها قد تتشابه إلى حدٍّ بعيد..
*حينما اجتمع الحلفاء في يالطة في شباط 1945 بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية، نادى جوزيف ستالين بإقامة مناطق عازلة في كلٍّ من آسيا وأوروبا، واتفقَ مع الأمريكي على دخول الحرب ضد اليابان، فبدأ بمهاجمة الشطر الشمالي لكوريا وتوقّفَ عند خط العرض 38 كما كان مُتّفقا بينه وبين الأمريكان، على الرغم من أنه كان بإمكان السوفييت احتلال كل الأراضي الكورية ولكنهم قبلوا بذاك التقسيم مقابل دعمِ موقفهم في التفاوض بشأن أوروبا الشرقية المهمّة لهم أكثر!!.
*القوات اليابانية في شمال كوريا استسلمت للقوات السوفييتية، وفي جنوب كوريا
استسلمت للقوات الأمريكية!!.
*خط العرض 38 كان الحد الذي يفصل بين النفوذين السوفييتي والأمريكي في شبه الجزيرة
الكورية، وكذلك هو الحد الذي مزّق كوريا إلى شطرين متباعدين جدا ومتحاربين رغم
أنهما أرضا واحدة وشعبا واحدا.
*لم تستشِر القوتان العظمتان شعب كوريا بهذا التقسيم، وكانت كل أفعالهما لاحقا تمهد
لترسيخ هذا التقسيم.. وقد اتفق الجانبان السوفييتي والأمريكي في موسكو على إدارة
كوريا من خلال لجنة مشتركة أطلقوا عليها اسم: " اللجنة الأمريكية السوفييتية
المشتركة " ومنحوا الشعب الكوري في القسمين الحُكم الذاتي تحت الوصاية الدولية لمدة
أربع سنوات على أن تصبح بعدها البلاد حرّة ومستقلة.. إلّا أن كلٍّ من السوفييت
والأمريكان عمِلَ على إقامة حكومة موالية له: السوفييت في الشمال والأمريكان في
الجنوب، وتابعة لآيديولوجيتة السياسية، وحينما اعترض الكوريون على الوصاية، تمّ
اللجوء للتحايل ودعى الأمريكان لإنتخابات، وهذه لم ترُق للسوفييت لأن عدد الشعب في
القسم الجنوبي هو ضعف عدد الشعب في القسم الشمالي وهذا يعني أنهم قد يخسرون حليفهم
كيم إيل سونغ!!. فأجرى الأمريكان انتخابات في الجنوب وأوصلوا أزلامهم وأتباعهم إلى
السلطة، وتخلّى الطرفان عن اتفاقات موسكو بشأن كوريا!.
*سوريا اليوم ليست شطرين فقط، كما كان الحال في كوريا، وإنما عشرات الأشطار، وحُدود
التفتيت يضعها الروسي والأمريكي، وبالتأكيد لن يقول أيٍّ منهما أن هذه سوف تكون
حدود تفتيت، ولكن كلٍّ منهما يعلمُ في سرِّه أنها ستتطور إلى حدود تفتيت، وأنه مع
الزمن سوف يتم ترسيخ ذلك من خلال سياسات وممارسات كل طرف في المناطق التي تقع تحت
نفوذه(ونتمنى أن تُخطئ توقعاتنا)!.وحينما يخشى الرئيس الروسي في مداخلتهِ خلال
منتدى بطرسبورغ في أوائل حزيران 2017 من تفتيت سورية من خلال إقامة مناطق تخفيض
التوتر، فهو يعني ما يقول!!. ومن المعلوم أن كل المناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة
هي عمليا تحت نفوذ الروس، وكل المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضات هي عمليا تحت
نفوذ الأمريكان.. ولذا فالطرفان الروسي والأمريكي هما بالنتيجة اصحاب القرار
بمستقبل سورية!. والغريب أن يخرج عليك بعض المعارضين اليوم ويكتشفوا أن المشكلة
السورية خرجَتْ من يد النظام ومن يد المعارضَة، بينما قلتها منذ سنة ونصف أن
المشكلة السورية خرجتْ من يد النظام والمعارضة ومن أيدي كل السوريين !.
*الكثيرون ينظرون إلى مناطق خفض التصعيد بموجب اتفاق الآستانة، على أنه تمهيدا
للتفتيت، وها هم الجميع يسابقون الزمن للإستيلاء على أكبر قسم ممكن من الأراضي، حتى
يحظى بحصّةٍ أكبر من الكعكة السورية!.
*السوفييتي والأمريكي حدّدوا خط العرض 38 كحدٍّ مؤقّتٍ للفصل بين نفوذ كلٍّ منهما
في شبه الجزيرة الكورية، ريثما يتوحّد الشطران، ومن ثمّ ترسّخ هذا الخط كحدِّ تقسيم
دائم وبدَل الوحدة حلَّ العداء الدائم!!.
في سورية سيضعون العشرات من خطوط العرض والطول.. ففي الجنوب تعمل روسيا والولايات
المتحدة والأردن (وطبعا بمشاركَة إسرائيلية ولكن من دون أن تحضر المحادثات بشكل
مباشر)، وهذا ما أكّدهُ وزير الدفاع الروسي شويغو حينما صرّح في مجلس الدوما الروسي
يوم 24 أيار 2017، خلال ما يُعرف بـ " الساعة الحكومية" ،أنه : " يتعامل بصورة
بنّاءة مع وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان حول إقامة المنطقة الجنوبية
لتخفيف التوتر " ..يعني هم ينسقون مع إسرائيل بهذا الشأن، والولايات المتحدة تطمح
إلى رسمِ حدود لِمنطقة آمنة تمتدُّ من القنيطرة إلى درعا وإلى شرق السويداء حتى
حدود الأردن وباتجاه شمال شرق على طول الحدود السورية الأردنية حتى معبر التّنف
القريب من المثلث السوري الأردني العراقي!!.
*وفي الشمال السوري تعمل روسيا والولايات المتحدة وتركيا لرسمِ منطقة أمنة أيضا!.
*وبحسبِ التقارير الإعلامية فإن الولايات المتحدة تسعى إلى رسمِ منطقة آمنة من معبر
منطقة البوكمال على الحدود العراقية وتمتدُّ شمالا إلى عين العرب على الحدود
السورية التركية، وهذه المنطقة قد تشمل مدينة الرقّة، كي تقطع الطريق على أي تواصُل
إيراني مع لبنان عبر سورية، وبذات الوقت تقيم ما تشاء من القواعد العسكرية!!.
إذا كل هذه المخططات مطروحة، وإلى أي مدى ستكون قابلة للتطبيق فهذا سيجيبنا عليه
المستقبل القريب..
*وطبعا كل القواعد العسكرية التي أُقيمتْ والتي ستُقام في سورية، من طرف أية دولة
كانت، ستبقى إلى ما شاء الله، لأن هذه القواعد هي حِصصْ هذه الدول من قسمة الكعكة
السورية!. ولن يتمكن أحدٌ من إزالتها ، أوّلا لِعدم امتلاك المقدرة، وثانيا لأن
الأمريكي سوف يتحجج بقواعِد الروس العسكرية، والروسي سوف يتحجج بوجود الأمريكي،
وهكذا الإيراني، والأكراد سوف يطالبون ببقاء القواعد الأمريكية في مناطقهم كحماية
لهم، وهذه ستكون ذريعة إضافية للأمريكان!!. وهذا أمر طبيعي بأية دولة يتدهور وضعها
كما تدهورَ وضع سورية، وتصبحُ كما الكّرمْ الداشر، يقصدهُ كل من يرغب للحصول منه
على ثمرَة!.
*وبين مُخطّط المنطقة الآمنة في الجنوب، والأخرى في الشمال، هناك مناطق عديدة تُرفع
السواتر الترابية بينها في الداخل، وقد تأتي قوات مراقبة من دول عديدة لتراقب
الالتزام بالتهدئة، وهناك أحاديث عن قوات أممية، أو بمعنى آخرا قوات فصل دولية،
يعني أشبه بتلك الموجودة في الجولان السوري المحتل، وإن حصل ذلك فإن هذه القوات سوف
ترحل حينما ترحل قوات الفصل في الجولان المعروفة بـ " الأندوف " !.
أليسَ من العار أن يصبح الوضعُ بين السوريين أنفسهم كما هو الحال بينهم وبين
إسرائيل!!. حدود مرسومة.. أسلاك شائكة.. سواتر ترابية عالية.. قوات مراقبة .. ألا
يُوجدُ أحدٌ مسئولٌ عن تدهور الأوضاع في سورية إلى حدود التفتيت وعن الفشل في حل
المشكلة حتى اليوم!!.
*طبعا هذا فضلا عن المنطقة التي يقيمها الأكراد كمنطقة حكم ذاتي في الشمال الشرقي
لسورية (والتي قد تتطور مع الزمن إلى دويلة بعد إجراء استفتاء كما يحصل اليوم في
كردستان العراق)، إضافة للمنطقة الآمنة التي أقامتها تركيا داخل الأراضي السورية ما
بين مدينتي الباب وجرابلس!!.
*إذا هناك تنسيق روسي أمريكي لكل هذه المخططات، وحالُ روسيا اليوم هو كما حال
الاتحاد السوفييتي لدى تنسيقهم مع الأمريكان بشأن كوريا، إذْ كانوا يسايرون
الأمريكان حينئذٍ كي يكسبوا منهم خلال التفاوض في شرق أوروبا.. وروسيا اليوم (من
طرفها) تسايرُ الأمريكان كي تكسب منهم في التفاوض في أوكرانيا وجزيرة القّرم وحزمة
مسائل أخرى في شرق أوروبا ومنطقة البلطيق!. ولِمَ لا؟. فلا أحدا سيخسر شيئا من
جيبهِ طالما كل شيء هو من حساب الوطن السوري وأرضهِ وشعبهِ..
*روسيا، كما غيرها، ليست جمعية خيرية، وتبحث عن مصالحها أولا، وعن مناطق نفوذ وعن
أسواق لبيع السلاح.. وها هم يتحدثون عن بيع صواريخ إس 400 إلى تركيا العضو في الحلف
الأطلسي ولا يوجد من يهددها لا في محيطها الإقليمي ولا خلفه، فما معنى بيعها
الصواريخ؟. نعم إنها التجارة والربح كما أية دولة غربية لا تعرف أصدقاء وإنما تعرف
مصالح، ولا يعنيها وحدة الأوطان طالما أن هذا يخدم مصالحها، ويبدو أن روسيا واللاعب
الأمريكي باتوا يدركون أن مصالحهم تقتضي تفتيت سورية، وهذا يضمن لقواعدهم التواجد
الأبدي فوق الأراضي السورية!!. وحينما يتحدّث رئيس دولة كما بوتين خلال منتدى
بطرسبورغ أوائل حزيران عن الخشية من تقسيم سورية، فهذا يوحي بأن التقسيم قادم على
الطريق!..
ما أشبه اليوم بالبارحة، فقد قضتْ فرنسا وبريطانياعلى الدولة العثمانية في أعقاب
الحرب العالمية الأولى ثمّ حلّت الدولتان مكان الدولة العثمانية.. واليوم ستقضي
أمريكا وروسيا على تنظيم الدولة الإسلامية ثمّ سيحلّان محلّهُ كقِوى انتداب حتى لو
لم تقولان ذلك علَنا.. هل من عاقلٍ يعتقد أن هناك من يمكنهُ إخراج روسيا وأمريكا من
سورية ما لَمْ تفعلان ذلك بأنفسهما وقناعتهما؟!.
من المحزِن والمؤلِم أن نرى سورية، وطننا وبلدنا، قد باتت رهينة للغرباء وهم من
يقررون كل ما يتعلّق بها.. سورية اليوم، وشعب سورية، لا يملكون من أمرِهم شيئا..
والحرب التي تدور في سورية هي حرب إيران من أجل مصالحها، وحرب روسيا من أجل مصالحها
أيضا، وحرب أمريكا لأجل مصالحها وحرب تركيا لأجل مصالحها، والضحية هي سورية وشعب
سورية..
الولاء لأي أجنبي هو ذاتهُ سواء كان من هذا الطرف أو ذاك الطرف، فلا يوجد أجنبي
غربي ولا أجنبي شرقي، يوجد أجنبي فقط مهما تعددت ألوانهُ، معنيٌّ بمصالحه اوّلا
وأخيرا، ومعنيٌّ بمكاسبه وتوسيع نفوذه وهيمنته، ونقطة على السطر..
هناك من يحدثونك بلغة الولاء للشرق أو للغرب، ويعطون أنفسهم صلاحية إطلاق الأوصاف
سلبا أم إيجابا، بتفكيرهم السطحي الهزيل، ولم يدركوا بعد أن الدول مصالح وليست
صداقات ولا صدَقَاتْ، وأن المصالح لا تعرف شرقا ولا غربا، وكل دولة، بما فيها
روسيا، تسعى خلف مصالحها وخلف أسواق لصناعاتها العسكرية وخلف الاستثمار بمنابع
النفط والغاز التي تزخر بها المياه السورية، وتبيع صفقات السلاح حتى لدولتين
متعاديتين، فهي تبيع لسورية وتبيع لتركيا، وكل من يطلب منها شراء أسلحة فسوف تعقد
معه الصفقات ولا يعنيها غضبُ أحدٍ، فهي تبحث عن التجارة والربح أيضا كما اية دولة
غربية!. فمتى سيعي هذه الحقائق أصحاب العقول المحدودة الذين يعتقدون أن الروس أولاد
عمومتهم وحدهم..
*ساذجٌ ومخطئٌ وموهومٌ كل من يعتقد أن هناك دولٌ غريبة تُقدِّم تضحيات لوجهِ الله،
ولا تريدُ حتى ثناء ولا شكورا، وليست لها مطامع ومطامح، ودولٌ أخرى لها مطامع
ومطامح!!. كل الغرباء لهم مطامح ومصالح والكلُّ يعمل لأجل مطامعه ومصالحه وليس لأجل
مصالح هذا وذاك!. فإيران كما تركيا، وروسيا كما أمريكا، الجميع يلهث خلفَ مصالحهِ،
ولكن هناك من تقاطعتْ مصالحهُ مع هذا الطرف لأنه يخدمها، وهناك من تقاطعتْ مصالحهُ
مع ذاك الطرف لأنه يخدمها، والنتيجة واحدة وهي أن المطامع والمطامح الخاصة هي من
تحكم سلوك الجميع ومواقفهم، ولا أحدا سائلا عن مصالح شعب سورية ولا عن مستقبل
سورية..
*هُم غير معنيون إلّا بِمن يخدمون مصالحهم ويتبعونهم، حتى لو كانوا من اسوأ خلق
الله ومسؤولين عن احتلال داعش لِمدنِهم، كماكان حال نوري المالكي في العراق الذي
كانت توجيهاتهِ حينما أخبروه بأن داعش على قاب قوسين من احتلال الموصل، ردّ يقول:
“دعوهم يدخلون حتى يعرف أهل الموصل من هي داعش.. فلعلهم يتوبون ويعودون لرشدهم” !..
وها نحن نرى كيف وقفت إيران تدعم دولة قطر وهي تعلم علم اليقين أن هذه الدولة كانت
دوما من أكبر الداعمين للتنظيمات المقاتلة في سورية التي تقاتلها إيران على الأرض
السورية!!. فكيف تكون التنظيمات الإيرانية والقطرية تخوضان حربا ضد بعضهما في سورية
بينما إيران صديقة لقطر في الخليج؟. كيف نُفسِّر ذلك؟. هل هو فقط نكماية
بالسعودية؟.
امّا روسيا فمواقفها وتصريحاتها يعتريها الكثير من التناقض بشأن سورية، فهُم من جهة
يتحدثون عن أنهم يدعمون الدولة السورية ولا يدعمون اشخاصا، ومن جهة أخرى يصرحون
ويفعلون عكس ذلك.. ولا يعملون بشكلٍ جادٍّ لتحقيق حل سياسي بموجب القرار 2254 وبيان
جنيف، يؤدي إلى إعادة توحيد سورية أرضا وشعبا ويحافظ على الدولة السورية، وإنما
مستمرون بالمناورات!. بل يقول بوتين يوم 15/6/2017 "أنه يعتزم التاسيس لعملية
سياسية في سورية " .. وهذا اعتراف صريح أنه لم يعمل بالماضي للتأسيس لعملية سياسية
في سورية!.
الرئيس بوتين من أكثر العارفين أنه لا توجد دولة سورية لِجِهة تطبيق القانون
والمعايير والأسس والعدالة وتكافؤ الفرص وفصل السلطات وحرية التعبير والإعلام وحقوق
الإنسان والحريات العامة والمحاسبة والمؤسسات.. الخ... ولكن هناك دولة بالمعنى
البوليسي والأمني ولا مكانة فيها إلا للأقوياء وأهل السُلطة والنفوذ والدعم ومن لفّ
لفيفهم.. بوتين يعرف قبل غيره أن الدولة التي يحرص على حمايتها لم تُخلَقْ بعد،
ونحن ننتظر منه العمل على خلقِ هذه الدولة بتطبيق القرار 2254 وبيان جنيف اللذين
يتهرب بوتين من تطبيقهما حتى اليوم، ويماطل على حساب معاناة السوريين ريثما يحصل
على المقابل في القرم وأوكرانيا..
إنه إهانة لمشاعر الشعب السوري بمختلف انتماءاتهم واصطفافاتهم أن يقول بوتين خلال
جوابهِ على أحد الأسئلة يوم 15/6/2017 عن المكاسب التي حققتها روسيا بتدخلها في
سورية، يقول: (أن مبيعات الأسلحة الروسية تزايدت في السنوات الأخيرة لأنها أثبتت
دقتها وتطورها في سوريا، واعتبرَ أن تجربة عدد كبير من الأسلحة الجديدة بسوريا ساعد
وزارة الدفاع الروسية في تجاوز السلبيات التي ظهرت على أداء بعضها..).. يعني ببساطة
أنه يستخدم الأرض السورية ميدانا لتجربة الأسلحة الروسية، فبماذا يختلف عن أية دولة
غربية جرّبت أسلحتها في الدول المُستعمَرة والمُستضعفَة!!.
*لا نستغرب من أمريكا شيئا لأنها معروفة دولة استعمارية تتاجر بالشعوب وقضايا
الشعوب وهي غير معنية بمثقال ذرة بهموم الشعوب وتطلعاتها وتدعم أكثر الأنظمة شمولية
بالعالم.. ولكن ماذا عن روسيا؟.
مشكورٌ الرئيس بوتين ووزير خارجيته على حرصهما على الدولة السورية من مصيرٍ شبيهٍ
بمصير ليبيا والعراق وكأنّ ما حصل في سورية بعد ست سنوات حرب، من دماء ودمار ونزوح
وهجرة ومآسٍ، ومن ثمّ التفتيتْ الذي نراه، كأنّ كل ذلك ليس بِأبشع مما حصل في ليبيا
والعراق.. لا شعب ليبيا ولا شعب العراق وصلا إلى مستوى المأساة التي وصل إليها شعب
سورية الهائم على وجهه في شتّى اصقاع الأرض، وبات السوري يخجل من هويته!!.
ثمّ هو يتجاهل أن ما حصل في العراق وفي ليبيا كان كله من ثمرات سياسات معمر القذافي
وصدّام حسين وعنادهما وسوء الحسابات والتقديرات (وليس من نظرية المؤامرة) التي
يختبئ خلفها الكثيرون للتغطية على فشلهم ومسئوليتهم، وإلا لماذا لم يحصل ذات الأمر
في مصر وفي تونس؟. أليسَ لأن رئيسيهما لم يُخطئا التقدير ويتصرّفا كما القذافي
وصدام حسين؟.
والرئيس بوتين يخشى من تواجد الناتو في سورية بينما زعيمة الناتو (الولايات المتحدة)
موجودة بقوة في سورية وباتت لديها قواعد فوق الأرض السورية تضاهي القواعد الروسية!!.
وأؤكدُ أخيرا أنه لن يكون هناك من منتصِرٍ في سورية والجميع خاسر لأن سورية كلها
خاسرة بما اصابها من تفتيت وتجزيئ وخراب ودمار وموتى ونازحين ومُهجّرين، وجوع وفقر
وبطالة ومشاعر بالقهر والحقد الدفين، عدا عن القواعد الأجنبية الأمريكية وغيرها
التي تملأ الأراضي السورية، وباتت في التّنفْ على حدود دمشق الشرقية مع العراق وووو
ومع ذلك هناك من يحدثونك من خارج سورية وداخلها عن انتصارات تاريخية!!. إنها اشبه
بِـ "انتصار" عام 1967، حينما احتلّت إسرائيل الجولان، وخرج البعض ليقولوا أنهم
انتصروا لأن أهداف العدوان بإسقاط النظام لم تتحقق!!. يعني سقوط الجولان لم يكُن
انتصارا لإسرائيل، وعدوانها كان فاشلا لأن النظام بقي واقفا صامدا شامخا متحديا كل
الإمبريالية العالمية بالخطابات الطنانة الرنانة التي لم تقتل بعوضة ولم تستعِد
ذرّة من تراب الجولان، وبأغاني "دلال الشمالي" وهي تصدحُ بأعلى صوتها كل يوم : من
قاسيون أُطِلُّ يا وطني، بينما الإسرائيلي يُطِلُّ من أعلى قمم جبل الشيخ المُحتل
ويرى كل شيئ فوق قاسيون وحتى داخل دمشق!!.
ذات الأمر كرّرهُ صدّام حسين بعد أن أخرجوه بشكلٍ مُذِلٍّ ومهينٍ من الكويت، فوقف
بعدها البعضُ ليقولوا أنه انتصر لأن الهدف كان إسقاط نظامهِ المقاوم الممانع
المناضل ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية وعملائهم، وهذا فشلوا به!!. ما هي
طبيعة هذا العقل؟. يا إلهي، كيف ستتطور هذه الشعوب في ظل هكذا عقول!!.
في بريطانيا استقال رئيس الحكومة المُنتخَب دافيد كاميرون لأنه اقترح إقامة استفتاء
على عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي ثم جاءت النتائج بعكس ما كان يريد!. واستقال
قبلهُ رئيس وزراء سكوتلندا لأن نتائج الاستفتاء على استقلالها جاءت بعكس ما يريد!.
متى سنعي وندرك ضرورة وأهمية التحلّي بالمنطق والعقل والموضوعية والتفكير الهادئ
العاقل ومنحِ الشعوب إرادتها وقرارها، والإرتقاء بالمسئولية إلى مستوى الأوطان
والشعوب؟. كل ما أصاب بلداننا من مآسٍ كان سببها غياب كل هذه المعاني!. وهناك من ما
زال يعتقد حتى اليوم أن خطاب التحدّي (الفارغ) ولغة الإنشاء والإطناب والصوت العالي
الهادر الثائر المُهدِّد، أن هذا قد يحقق له انتصارا ويخيف الأعداء!. ما قيمة
الأنظمة التي تدين ببقائها لحماية الخارج في أي مكان بالعالم؟.
*أين هي تلك المحبة التي كان الجميع يتشدقون بها لسورية الأم وسورية الوطن؟. كل ذلك
كان نفاقا؟. حب سورية لهذا وذاك يعني فقط القبض على السُلطة وتكديس الثروات، وإلا
لِتذهب بـ 600 ألف داهية؟!.
سورية لا يمكن لها أن تستمر بذات الطريق الذي ثبتَ فشلهُ وجلبَ لسورية الفساد
والفقر والظلم واحتكار المال والسُلطة وغياب القانون والمعايير وتكافؤ الفرص، وولّدَ
فجوة هائلة بين أبناء الوطن، وخلق طبقة حُكام وطبقة محكومين، طبقة اسياد وطبقة عبيد
لا دورا لهم سوى طأطأة الرأس..هذا ما يجب أن تفهمه وتتدارَكه روسيا وإيران!.
*وإنني إذْ أشيرُ إلى إيران وروسيا فلأنهما مسئولتان بشكلٍ أساسٍ ورئيسٍ عن الحل
السياسي في سورية لِمَا تتمتعان به من نفوذ وتاثير وسُلطة وقوّة على الساحة السورية..