"ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه... تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن"
كثيرون يحلمون أن يكونوا رؤساء أو وزراء أو سفراء أو قضاة أو أطباء أو مشهورين... الخ, ولكن هناك من لا يحقق مهنته الحلم ويضطر لممارسة عمل آخر!!
هل تحب مهنتك أم أنك تمارس مهنة لا تحبها فُرضت عليك لسبب ما؟؟
كثيرون من شبابنا كانوا يحلمون ذات يوم بقيادة طائرة حربية مما يجعلهم يقضون معظم أوقات فراغهم في التنفيس عن هذه الرغبة من خلال ممارسة الألعاب الالكترونية الخاصة بالطائرات الحربية, وهذا حال صديق عرفته منذ عدة سنوات, لم يستطع تحقيق حلمه بسبب رحيل والده المبكّر عن هذه الدنيا تاركاً له والدة وشقيقة يعولهما وعمره لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً بعد!!
هو اليوم يدير محلاً لبيع قطع غيار السيارات منذ أكثر من سبع سنوات, أتقن هذا العمل وأحبه وأراه يبتسم بعزم علمته له الأيام ويقول: "أحب عملي ولكن على الرغم من ذلك لم أنس حبي للمهنة التي كنت أحلم بها وأنا صغير"
يحاول إقناع من حوله بأنه تخطى هذه المسألة منذ زمن قائلاً: "الواقع لا يحترم أحلامنا ولا يمكنني العودة إلى الوراء لتحقيق حلم قديم, ولكنني أشكر الله لأنني وُفّقت بمهنة أمنت لي ولأسرتي حياةً كريمةً"... إنه الواقع الذي رضي به حتى لا يسيء إلى نفسه ومستقبله.
ولكن هل هذا هو حال كل من حرمته الحياة والظروف تحقيق حلمه؟؟؟
لابد أننا جميعاً صادفنا أشخاصاً يمضون مشوارهم العملي يتنقلون من مهنة إلى أخرى لأنهم لم يجدوا أنفسهم في أية مهنة منها بعد!! فلا يوفقون في مهنة تكفلهم وتحفظ مستقبلهم ويخرجون دائماً صفر اليدين بعد كل محاولة!!
كثيرون يلعنون حظهم في الحياة فنجد من ينتقل من مهنة التدريس إلى مهنة مدرب رياضي إلى وظيفة حكومية... الخ, ولكنهم لا يجدون أنفسهم في تلك المهن والوظائف, ويحاولون إقناع أنفسهم بأن هذه المهنة أو تلك هي حاجة ضرورية لإعالة عائلاتهم والأسرة التي يفكرون بتأسيسها, ولكن كلما ذُكر الأمر أمامهم نجد المرارة تأكلهم والحزن بادٍ على وجوههم!!
كانت لدي زميلة في الجامعة أختها درست الحقوق, أحبت هذا الفرع كثيراً, فهي تحلم أن تعمل كمستشارة قانونية لمؤسسة تجارية ضخمة, جاهدت كثيراً حتى دخلت الفرع الذي رغبت به..
لم تنته أحلامها ولكنها تأجلت لبعض الوقت بسبب بعض الأمور الخارجة عن إرادتها!!
عملت في مجال تفتيش الضرائب... الظروف الاجتماعية والراتب المغري والضمان الذي توفره الدوائر الحكومية, كلها كانت تشكل مغريات بالنسبة لها للاستمرار في وظيفتها, ولكن رغم ذلك لم تمنعها من التفكير في أحلامها وهي تتربص أقرب فرصة لممارسة المهنة التي حلمت بها وسهرت الليالي لدراستها أكاديمياً.
جميل أن يحفظ الإنسان للأحلام مكاناً في عقله, فهذا من شأنه أن يدفعه ويحمسه لمستقبل مشرق فيجتهد أكثر ويحسن من خبراته العملية بكل طاقاته.
قد يفقد المرء طموحه في سبيل تأمين لقمة العيش أو بسبب الظروف القاهرة والمسؤوليات الكبيرة التي تتحكم في اختياراته وتجبره على القبول بأي مهنة كانت مادامت توفر له العيش الكريم.
ممارسة مهنة لا نحبها ليست نهاية العالم بل يمكن اعتبارها مرحلة انتقالية للإفادة منها للوصول إلى الحلم الأكبر, ولكن لا يجوز أن يفرط المرء بمبادئه وكرامته من أجل المهنة أو أن ينسى طموحه, فيسقطه من حساباته أو يضعه على هامش حياته إلى جانب الأحلام المستحيلة التحقيق, بل لابد من محاولة العودة يوماً إلى ممارسة المهنة الحلم مهما طال الزمن.
من الصعب أن يعمل الإنسان في مهنة لا يحبها, ولكن الحياة والظروف تجبر الكثيرين على هذا الأمر, ولكن غالباً من يمارس مهنة لا يحبها يجد صعوبة بالغة في التقدم والنجاح الذي كان سيحققه في حال مارس المهنة التي لطالما حلم بها.
أذكر منذ عدة سنوات عندما أخبرني عمي العزيز المتقاعد حديثاً من الخدمة في صفوف الجيش أنه في شبابه كان حلمه الكبير امتلاك ورشة ميكانيك سيارات, ولكن الظروف وقتها لم تمكنه من تحقيق حلمه فانخرط في القوات المسلحة كي يمارس هذه المهنة ويكتسب فيها خبرة على أمل أن يحقق حلمه بامتلاك ورشة خاصة بعد التقاعد...
قال أنه لن يكون مرتاحاً إذا مارس مهنة أخرى ولكن عمله أتاح له فرصة الدراسة والتطور واكتساب الخبرة في هذا المجال, وكان يشعر بسعادة بالغة عندما يحقق نجاحاً ما .. لذلك فهو يرى أن على كل شخص أن يستغل الفرصة المناسبة للقيام بعمل ما, حتى لو كان خارج نطاق أحلامه, ولو بشكل مؤقت, لأنه بإمكان الجميع النجاح في مجالات مختلفة, بشرط التركيز في العمل وعدم السماح لأهوائنا و مزاجيتنا أن تتحكم فينا مما ينغص علينا حياتنا, ولكن دون أن ننسى حلمنا الأساسي.
رغبة الأهل قد تكون مخالفة لميول أبنائهم في اختيار المهنة التي سيمارسونها في المستقبل, لاعتبارات أسرية ما!! فالطبيب الذي يملك عيادة أو مستشفى خاص, يفترض أن ابنه سيكون طبيباً ليستلم ما بناه وأسسه من بعده! وكذلك الصيدلاني والمهندس الذي يمتلك شركة كبيرة للمقاولات.. الخ .. مما قد يعرض الشاب للفشل نتيجة رضوخه لرغبة ذويه في دراسة فرع لا يرغب به.
رأي الأهل مهم وضروري طبعاً فهم أكثر خبرة ودراية ومن واجبهم توعية أبنائهم وإرشادهم إلى ما يرونه صحيحاً, ولكن يجب أن يكون القرار النهائي لصاحب الشأن, لأنه سيتحمل بالنهاية تبعات فشله أو أنه سيقطف ثمار نجاحه وإبداعه.
الثانوية العامة هي نقطة انعطاف مصيرية بالنسبة للكثيرين وهي تحدد مستقبلهم المهني, فكم من الناجحين فيها لا تخولهم درجاتهم دخول الفرع الجامعي الذي يرغبون به, فيدرسون فرعاً آخر يجبرهم على ممارسة مهنة لا يحبونها؟!!
كم من حالم بدراسة الطب اضطر للاستسلام فدرس الصيدلة أو الهندسة أو الاقتصاد أو غيرها؟!!
ولكن مع الوقت قد يجد هؤلاء متعة في مهنتهم الجديدة فيبدعون فيها ويتقدمون بثبات ويبرعون!! فيتلاشى الندم الذي أحسوا به في البداية, ويصبح جلّ اهتمامهم هو التقدم في مهنتهم والارتقاء إلى مراكز أعلى... ولكن الأمر يتطلب ثقة كبيرة بالنفس وحب المهنة بمرور الوقت, حتى لو لم تكن ترضي أحلامهم, فهذا هو السبيل الوحيد للتطور والنجاح, بدلاً من التخبط في بؤرة الإحباط والفشل, جراء هواجس المهنة الحلم.
قد يكون الزواج بالنسبة للفتاة وإنجاب الأطفال سبباً أساسياً في التخلي عن حلمها في ممارسة مهنة تحبها في سبيل التفرغ لرعاية أسرتها, حتى أنها قد تنظر إلى الحياة بمنظار آخر, فترى أن حلمها قد تغير لتصبح تربية أطفالها والعناية ببيتها وحياتها الزوجية هي حلمها الجديد والأهم والأسمى!!
غياب الحب للمهنة يؤدي في بعض الأحيان إلى غياب الالتزام بالمسؤوليات, لذلك على كل منّا ترك فسحة للمساومة والتّأقلم والصّبر لكي نقوم بالمسؤوليات الملقاة على عاتقنا, وكي لا نكون ضحايا الفشل والاكتئاب والملل.
النجاح أو الفشل في أي مهنة هو أمر نسبي, لأن الواقع يقدم لنا أمثلة كثيرة لأشخاص مارسوا مهنة مختلفة عن التي كانوا يحلمون بها, لكنهم يحققون نجاحات كبيرة في مهنتهم البديلة, وهذا دليل على أن حب المهنة ليس هو العامل الوحيد الذي يساهم في النجاح, بل هناك عدة عوامل أخرى منها المعرفة والمهارة اللازمة والبيئة الجيدة والنيّة والإصرار على النجاح, فبذلك يكون حب المهنة هو تتويج للنجاح ودافع للإبداع والمتعة في ممارستها.
لذلك على كل شخص اضطرته الظروف للعمل في مهنة لا يرغب بها, أن يتقبل الواقع والخيارات المتاحة والالتزام بها والتدرّب عليها, وبذلك يستطيع جعل الحياة رحلة أكثر متعة وأكثر توازناً تجنبه الفشل وتبعاته... فبقدر ما يتمسك المرء بحلم بعيد المنال تحقيقه مستحيل, بقدر ما يتخبط في الشقاء والغم والندم على حلم ضائع وسعادة لم يتوصل إليها.
إعادة النظر المتكرر في المهنة, والوقوف على عوامل الفشل فيها وعلى الظروف التي فُرِضت علينا يقود إلى عدم الاستقرار وخلق حالة دائمة من الاستياء والتأفف, ومع الوقت نفقد الثقة بأنفسنا ونضيّع فرصاً في اكتساب خبرات عملية تفيدنا في المستقبل.
تمسكوا بأحلامكم ولكن بشرط عدم تخطي إطار الواقع وتجاوزه إلى الخيال...