في قرية جبلية منّ عليها الخالق بطبيعة خلابة, تجعل من يقصد أحضانها ينسى كل همومه ومشاكله, إلا أن هناك من جثمت فوق صدرها هموماً بحجم تلك الجبال ولم تستطع تلك الطبيعة أن تخفف عنها.
هناك فوق إحدى التّلال, بيت عربي مشيد على الطراز الحديث في تلك الفترة (منتصف الخمسينيات), تسكنه عائلة مؤلفة من الأب والأم الذين يعملون في الزراعة وخمسة أولاد وابنتين.
منذ نعومة أظفارها اعتادت على القيام بأعمال كثيرة حتى الشاقة منها, رغم أنها الصغرى بين أشقائها, فهي تنهض منذ الصباح الباكر, ترافق والدها مع الثورين الضخمين اللذين يستعملهما في حراثة أرضه, تمشي خلفه لاقتلاع الأعشاب الضارة والحجارة بعد تقليب التربة, أو لجمع محصول الزيتون في موسمه, لتعود بعد ذلك لإطعام الثورين وباقي الحيوانات والدجاج, أو تتجول في البراري لجمع الحطب الجاف لاستعماله في التدفئة والطهي والغسيل, ففي تلك الأيام لم تكن هناك أفران ولا غسالات حتى العادية منها, ولو وجدت فلا يوجد كهرباء لتشغيلها.
ما إن ينتهي النهار ويبدأ الليل بإسدال ستائره حتى تستلقي على فراشها منهكة القوى, فتغط في نوم عميق لتعاود العمل مع خيوط الفجر الأولى.
في ذلك الزمان لم تجر العادة على إدخال الفتيات إلى المدارس, فقد كان التعليم حقاً محصوراً بالفتيان دون الفتيات, ورغم أن أختها الكبرى لم تتعلم إلا أنها لم تكن ترغب بالقيام بتلك الأعمال الشّاقة, فتمضي نهارها في الزينة واللهو مع صديقاتها وأقرانها.
لم يجد الأب من بين أبنائه من يستطيع الاعتماد عليه في عمله سوى ابنته الصغرى, التي لم تتذمر يوماً أو تشتكي, بل كانت تشعر بالسعادة بما تقوم به رغم صعوبته, فأبناؤه الخمسة يتابعون دراستهم, والابنة الكبرى في عالمها الخاص, وزوجته تقوم بأعمال البيت وترعى الحيوانات في البراري بمساعدة ابنتها الصغرى والكبرى في بعض الأوقات حين ترغب بذلك.
مرّت السنين, تزوجت الأخت الكبرى, وانصرف الإخوة كل منهم للعمل بعد الانتهاء من الدراسة, فمنهم من تزوج وأنجب الأولاد, وهي مازالت على حالها, تعمل وتعمل دون انقطاع.
رآها شاب وسيم من نفس القرية كان يدرس في الخارج, وعاد منذ فترة قريبة, متعلم وذو مركز مهم, أعجب بها وبتفانيها في خدمة والديها, فقرر التقدم لخطبتها رغم بساطتها, ورغم أن بإمكانه الزواج بأخرى متعلّمة من المدينة, وتمتلك قدراً أوفر من الجمال, الذي افتقدت الكثير منه بسبب العمل في تلك الظروف, وتحت أشعة الشمس القاسية, أو البرد القارص.
رغم أن رغبة شاب مثله بها تعتبر فرصة لن تتكرر, إلاّ أن والدها قابل طلبه بالرفض, بحجة أنه يحتاجها لمساعدته ولا يمكنه الاستغناء عنها, فهو لن يخرب بيته ليعمر بيوت الآخرين!!
باءت كل محاولاتها ومحاولات الأقارب والأصدقاء لإقناع والدها بالتخلي عن موقفه بالفشل, بعدها سمعت بأن ذلك الشّاب تزوج من امرأة أخرى من المدينة وقرر الابتعاد عن القرية نهائياً.
مضت السنين, وبدأ الزمن يحفر آثاره على وجهها, ولكن لا شيء تغير, مازال الأب على عناده يرفض تزويجها رغم كثرة الرجال الذين رغبوا بالزواج منها, وهي مستكينة لرغبته, لا تجد من يقف بجانبها حتى أخوتها, فكل واحد منهم انصرف لرعاية عائلته وأبنائه.
بعد مدة مرضت الأم بمرض عضال, لتضاف إلى أعمالها التي لا تنتهي مهمة جديدة وهي رعاية أمها المريضة.
كانت أمها هي ملاذها الوحيد, فهي التي تشعر بها وبمعاناتها, ولكنها لا تستطيع شيئاً حيالها, بسبب تسلط الأب وجبروته.
بقيت على هذه الحال ما يقارب العشر سنوات, كانت ترفض من يتقدم لخطبتها حتى قبل أن تُعلم والدها, فهي لا تريد أن تترك والدتها المريضة, إلى أن توفيت الوالدة, وأصبحت وحيدة, ولكن الحال لم يتغير بعد وفاة الأم, وحتى بعد أن حصل كل واحد من أخوتها على حصته في الميراث, فوالدها كان يصرّ على العمل في الأرض وفلاحتها بواسطة الثورين, ويرفض الطرق الحديثة, وبالتالي فهو مستمر برفض من يرغب بالزواج بها, رغم أنها أصبحت في نهاية العقد الرابع من عمرها.
بعد إلحاح أخوتها وكبار العائلة ممن يستطيعون التأثير على والدها, استطاعوا إقناعه بأن يسجل قطعة أرض باسمها تنتفع منها مدى الحياة, ولكن لا تمتلك حق بيعها أو مبادلتها, بل وأكثر, فالأرض ستعود لأخيها الأصغر في حال تزوجت!! بالإضافة إلى إلزام كل واحد من أخوتها بصرف مبلغ شهري لا يكاد يكفيها حاجتها من الخبز الجاف, ومع ذلك فقد كان يتهاون معظمهم في دفعه بحجة أن مداخيلهم لا تكفي لرعاية أسرهم.. فكانت تنفق من جمع محصول الزيتون الذي تنتجه الأرض لتبيعه وتشتري القدر اليسير من حاجاتها الضرورية, أما الباقي فكانت تشتريه مما تحصل عليه بعد حياكة الصوف لبعض الزبائن الذين كانوا يقصدونها.
في هذا الوقت أصبح والدها كهلاً وأصيب بمرض الشيخوخة, وكان يحتاج لرعاية خاصة, ومن غيرها يستطيع أن يرعاه؟!!... أمضت سنين طويلة أخرى في رعايته, والعمل لتوفير قوت يومها, حتى أصبح من يشاهدها يظن أنها أكبر بكثير من عمرها الحقيقي.
توفي الأب, لتجد نفسها وحيدة في ذلك البيت القديم, مع ما تركته السنين والعمل الشاق من آلام وأمراض في ظهرها, ويديها وركبتيها, حتى البيت ليس لها, فأخوها الأوسط حصل عليه من الميراث, وهو يرغب بهدمه ليقوم بتوسيع بيته.
هي اليوم تعيش من قلة الموت, بعد أن وافق الأخ على تأجيل الهدم, ليس رأفةً بها, بل لأنه لا يملك المال الكافي للبناء... لا معيل... ولا سند... سوى أخوتها, بالاسم وليس بالفعل, فقد أخذتهم الدنيا ومشاكلها, فنسوا أن لهم أختاً وحيدة لم ينصفها القدر ولا والدها, فكانت ضحية أنانيته وجبروته, وقلة اكتراث من حولها لما أصابها, أو قد يصيبها.
تقضي معظم وقتها بين قبور والديها وأخوها الأكبر, الذي وافته المنيّة قبل والده, تبكي وتطلب السماح لوالدها الذي ظلمها وهي على هذه الحال بسببه.
--------------------------
هل يعتقد بعض الآباء بأنهم سيعيشون إلى الأبد حتى لا يفكروا بمستقبل بناتهم؟ هل بناتهم جواري منحهم الله إياهن ليستعبدوهن ويسلبوهن كل طاقاتهن دون التفكير باحتياجاتهن كإناث لهن كرامتهن؟
عندما تحصل الفتاة على شهادة جامعية, تكون قد امتلكت سلاحاً قوياً في مواجهة المجهول, ولكن تلك الفتاة لم تمتلك أي سلاح تستطيع أن تواجه به مصاعب الحياة!! وحتى إن ترعرعت في زمننا هذا وتعلمت وحصلت على شهادتها فهل كان سيوافق والدها على تزويجها ما دامت تشارك في مصروف البيت براتبها؟ مادام هو يمتلك هذا القدر من الأنانية؟
لا أعتقد ذلك فأنانيته ستجعله يحرمها من أبسط حقوقها, وهنا يخطر على بالي سؤال... هل هذا هو جزاء تفانيها وبرها بوالديها؟ ماذا لو كانت مثل أختها لا تهتم سوى بنفسها؟ لربما تزوجت ورزقت بالأبناء؟.
هذه ليست دعوة للعقوق, بل هي دعوة للآباء للتفكير في مصير بناتهم والتخلي عن أنانيتهم وتسلطهم.