أولاً: التعريف:
إن الفساد يندرج كمفهوم ضد الصلاح والاستقامة والأمانة،
وهو من المعاجم اللغوية، انحراف وانحلال وقبح، وحالة تعفن وتدهور أخلاقي، ما يعني أن الفساد يصدع ويهدم البنية البشرية في أي مجتمع يتسرب إليه ويهدم شخصيته الاعتبارية،ولا عجب أن يطول الفساد البنيان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والنفسي، في مجتمع غاب عنه القانون وسلطته الشرعية، وأهمل المسؤولون عنه تطبيقه، وحلت محله سنن وأعراف وضعها أصحاب المصالح والمطامح الشخصية، لتخدم أغراضهم غير المشروعة...
ما ترك آثاراً سلبية جسيمة على أخلاقيات العمل وقيم المجتمع، وأدت إلى تبرير الفساد وتحويل الرشوة والعمولة إلى حق مكتسب وعرف اجتماعي مشروع، وصار المرتشي شاطراً أو محنكاً أو حاذقاً... ولقد تعددت أوصاف ظاهرة الفساد بتعدد أساليبها وتنوع سبلها، وهي بالإيجاز، استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، فهي تأخذ معنى الرشوة تحت ستار الهدية، ومعنى العمولة التي تسهل عقد الصفقات وتسويقها، وهو ما يسميه الناس بالبرطيل، كما تأخذ معنى التدليس والنصب والاحتيال، ومعنى وضع اليد على المال العام من قبل بعض شاغلي المناصب الحكومية، أو من قبل أهلهم وأقاربهم، بالنهب أو بالسطو أو الاختلاس والسلب... الخ
- وعرّف تقرير التنمية الصادر عن البنك الدولي عام 1997 الفساد بأنه سوء استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب ومنافع خاصة.
والفساد وفق تعريف منظمة الشفافية العالمية، هو إساءة استغلال المنصب الحكومي لتحقيق مكاسب شخصية. وبالتالي هو مشكلة خطيرة، تؤثر بشكل أكيد وكبير وسلبي على التنمية والتطوير، وتهدد وتائر تحقيقها في أكثر من 70 دولة في العالم، وهو أيضاً آفة هائلة التأثير الضار والمدمر على الحاضر والمستقل لكل المجتمعات التي تسربت إليها بغفلة من المضادات لها أو بالطواطئ معها...
ويضيف د. خلف جراد أن الفساد هو اكبر معوق للإصلاح والتنمية والذي يتكون من: المسؤول الفاسد- والإداري المتردي وجدانياً وأخلاقياً- والسياسي المنافق والمتلون- والقاضي الذي لا يحكم بالعدل بين الناس- والمثقف داعية الاستسلام واليأس والانسلاخ عن أمته وتراثها وهويتها- والصحفي الذي يستعمل كلمته ومكانته وسلطة الكلمة ليبتز أبناء وطنه- والأستاذ الجامعي الذي يبيع الأسئلة والدرجات- والطبيب غير الملتزم بقسمه، وشغله الشاغل جمع المال لا الحفاظ على الأرواح... كل هؤلاء وأمثالهم الكثير يشكلون الورم الخبيث والفيروسات الخطيرة والمدمرة لحيوية جسد المجتمع...
- ولا بد من التأكيد هنا على أن ظاهرة الفساد متفشية في جميع مجتمعات الحاضر، بنسب متفاوتة، وأخطرها أثراً يقع على المجتمعات المتخلفة، لان هذه المجتمعات تجمع بين الفساد الذاتي الموروث من ادوار الانحطاط، وبين ما تتلقاه من الحضارة الحديثة من سلبيات ضارة جداً وسيئة جداً، وأهمها رفع المال إلى أعلى مراتب القيم المنشودة، ونفاذ تأثيره والحكم بمعياره في سائر طبقات المجتمع، وتحوله كمطلب ملح لاستخدامه كوسيلة فاعلة للتسلط والاستغلال وفرض النفوذ، مما أدى إلى انحراف الفرد والمجتمع، وأصبح مصدراً للفساد والإفساد، فالمال أولاً والمال المال أولاً وأخيراً هو الهدف والغاية والمعبود!!!
بالإضافة لاقتباس أسوأ ما في تلك الحضارة المادية المخربة للمخزون الأخلاقي والروحي لحضارة هذه المجتمعات، من سلوك استهلاكي متوحش ومتباهي ومتوهج إغواءاً وجاذبية وتقليداً مرذولاً ومداناً... فالكل يركض إليه ويلهث خلفه لعله يصبح من أصحابه ومرافقيه، وعلى الدنيا الطوفان... وما رافق هذا السلوك من مساوئ وخطايا وكوارث على المجتمع برمته الذي كان أهله إلى حد قريب يعتزون بانتسابهم إلى حضارة إنسانية راقية تحتضن اكبر احتياطي أخلاقي وروحي بين الحضارات، وتشكل الضمان الأكبر والأوحد لبقاء الإنسانية، والحفاظ على انجازاتها الهائلة التقدم والازدهار، من الاندثار بفعل الغطرسة والتجبر المادي المهيمن على حضارة الجسد بلا روح!!! وهنا نردد مع الشاعر حزماتوف تسادا " لتكن أخلاقك أجمل من ثيابك... ولتكن أعمالك أهم من أقوالك "
ونتساءل بعد تعريف الفساد بالإيجاز المتقدم مع المتسائلين، وبعد أن انداحت دائرة الفساد واتسعت، لتشمل كافة أوجه النشاط البشري للمجتمع ونواحيه المختلفة... هل ينحصر مفهومه في الأمور التالية - الرشوة- البرطيل- الاختلاس- سرقة المال العام- الخوة- البخشيش المفروض- استخدام النفوذ لتسهيل الصفقات والعقود والمقاولات والمناقصات لمن لا يستحقها- الموافقات الاستثنائية من وراء ظهر القانون أو من مابين سطوره، بمقابل معلوم أو بنسبة من الأرباح المحسوبة مسبقاً، أو بالدخول كشريك اعتباري فيها..؟! (( مثلاً صفقة مانعات الضجيج للسورية للطيران بالـ /150مليون ل.س/ سلمت في لندن واكتشفت مستعلمة في دمشق بعد 3 سنوات )).
أم يتسع مفهوم الفساد ليندرج فيه، الحصول على مواقع المسؤولية ومناصب ومراكز سلطوية، بغير استحقاق ولا مشروعية، بل بشرائها بأشكال مختلفة زكمت رائحتها الأنوف منذ زمن بعيد...؟!
وهل يدخل في مفهوم الفساد، الاحتكار والغش والتدليس في التجارة وغيرها- الانتهازية والوصولية والنفاق والمزاودة في السياسة- استغلال كل ما يتاح من أساليب ملتوية ووسائل غير مشروعة للوصول إلى المآرب والمصالح الشخصية على حساب الصالح العام - الهدر والتبذير والإسراف وتبديد المال العام على مظاهر خلبية في كل شيء، التي أصبحت عادة حاكمة لدى المسؤولين المغادرين منهم والقادمين..؟!
وهل اصطناع الأزمات المعيشية المتواترة المفتعلة والمبرمجة، لمصلحة حفنة قليلة، استفادت منها ومن استمرارها جيداً، بحيث أصبح لدينا أثرياء الأزمات كأثرياء الحروب على حساب الوطن والمواطنين، كتجار الأسواق السوداء والمتواطئين معهم من المسؤولين عن وجودها ومستثمريها وغيرهم من الطفيليين الكثر..؟! ورغم قضاء السلطة عليها جدياً فإنها لا تزال تعاود نشاطها بين الفترة والأخرى، كلما أتيحت الفرصة لأصحابها جميعاً /الاسمنت والمحروقات مثلاً...الخ/؟!
وهل التهريب بأنواعه هو من الفساد؟ أم انه هو الفساد الأكبر؟! الذي اغتنى به الكثير من ضعاف النفوس... مهربون وتجار وجمارك وسلطات معنية مختلفة، ومن يرعاها أيضاً، غنى فاحشاً على حساب الاقتصاد الوطني، وبالتالي على حساب الوطن والمواطن، ولا يزال مستمراً باقتدار ( مثلاً 3 مليارات قيمة المازوت المهرب، بالإضافة لمليارات أخرى قيمة دقيق مدعوم وأدوية ... الخ، تذهب إلى جيوب هؤلاء الخونة ).
وهل وجود العمارة المخالفة وأثرياؤها تاجر ومسؤول ومسهل الأمور، التي نبتت كالفطر حول المدن، كأحزمة الصفيح، التي شوهت وجه المدن كالجدري في الوجه الجميل، وانتشرت بتسارع منقطع النظير، بفضل السلطة والحاجة والغلاء والتسيب المثير للفساد والجاذب له بإغراء الغانيات، فعدم وجود مخططات تنظيمية مواكبة، وبالتالي عدم توفر ارض منظمة للبناء، وإذا وجدت فان رسوم الترخيص خاصة لنقابة المهندسين تقصم ظهر الفقير ( بالمناسبة طالب الإعلام والمعنيين بتخفيض رسوم نقابة المهندسين، لتسهيل الترخيص والتشجيع عليه، فإذا بها وياللعجب العجاب زادتها بنسبة كبيرة جداً (40%)، والكل يعرف هذا وساكت عنه، والمهندسون أيام العطري أعوامهم السمان ونقابتهم الأسمن، بالقياس لرسوم البلديات المتواضعة العائدة لخدمات المواطنين )
مما أدى بالباحث عن مأوى رخيص، إلى حظائر تجار المخالفات وتجار المسؤوليات معهم، فكانت ولادة أثرياء المخالفات كأثرياء الأزمات، كأثرياء التهريب الرهيب، وأثرياء السلطة... والتهموا مال المواطنين وخضرة الوطن، ومعها ابتسامة عشاقه ومحبيه وساكنيه، وأضاعوا الوقت والجهد والمال سدى، لان كل هذا البناء إلى زوال بشكل ما آت بلا ريب... ؟ فلماذا يستمر هدر ثروة الوطن وعرق المواطنين مجاناً وبلا مبرر ولمصلحة من؟!! وللإنصاف فقد ساهمت معهم السياحة المغشوشة المزاودة والمتزلفة في قضم جزءاً من مرابع الخضرة والماء والوجه الحسن، بفساد وإفساد، وإلا فهل لايكون هناك صناعة سياحية ناجحة ورابحة إلا بالإساءة إلى البيئة والى ذاكرة الناس ( كيوان - المعرض - البارك - أماكن مختلفة في القطر، مطلوبة سياحياً لو تسمحون بدون الحاجة إلى سوق السياحة المتبجح به ...)
أما الاستملاك الغادر وما يرافقه في كثير من الأحيان من مظالم ومفاسد، فله دوره في الخلل الأخلاقي والبيئي أيضاً... ولا يزالون / العمارة المخالفة- السياحة- الاستملاك / بلا تقويم أو ردع، بل في غيهم سادرون، فالسلطة المعنية عمياء البصر والبصيرة، صماء عن سماع استغاثة الملهوفين على الوطن والمستجيرين بها، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، صارخين أنقذونا من الوحش الإسمنتي الكاسر، واتركوا لأبنائكم وأحفادكم شيئاً من جمال الوطن العزيز، ولا من مجيب ...!!
وأخيراً نتساءل أيضاً، هل تخريب العقول والنفوس والضمائر والأفكار والعقائد الإنسانية، وتدمير القيم النبيلة والمثل العليا العظيمة، وتشويه العادات والتقاليد الاجتماعية الحميدة والأصيلة، وتغيير تفكير وسلوك الناس الأخلاقية الصالحة إلى المادية الاستهلاكية الطاغية القادمة مع العولمة الراعبة, وصرعاتها الفاسدة, وإهمال أهم ما فيها من وسائل تقدمها التكنولوجية العصرية والرقمية المتسارعة, بدلاً من السعي الجدي والحثيث لامتلاكها وتوطينها كما يجب. هل يدخل كل هذا في مفهوم ظاهرة الفساد ؟!
أم ولادة كبار الملاك وكبار الرأسماليين, على أنقاض الإقطاع والبرجوازية, غير الشرعية, وظهور هؤلاء كالأباطرة والأبالسة, الطغاة الفاجرون الفاسدون كل الفساد،والزارعون له والحاصدون لغلاله, كان أسوأ ممن كان خلقاً وأدباً وسلوكاً, وكان لهم الدور الأكبر في القضاء على الطبقة الوسطى السورية تقريباً، والتي كانت تشكل ما يقارب 80% من المجتمع, مما أدى بالتالي إلى زيادة حدة التمايز الطبقي بين القلة الأثرياء والكثرة الفقراء، وتوالدت جبال من الأخطاء والخطايا, ومن الإساءات والأسايا, ومن الخلل الكبير والخراب الأكبر, وساهمت في ولادة الفساد وانتشاره وتجذره, وأصبح هؤلاء الحيتان والفساد توأمان ملتصقان, يجب القضاء عليهما معاً, وأصبحت العلاقة بين الفساد والفقراء جدلية, فكلما ازداد ازدادوا... وللعجب لا يعتبر كل هذا من الفساد ولا يدخل في مفهومه، لما لهؤلاء من سطوة مثيرة للدهشة والاستغراب على الوضع العام برمته!!! وإلا لكانت فتحت ملفاتهم فوراً ( خدام وأمثاله ).
- فالفساد بالنهاية, في مجمله هو تعبير عن حالة الفرد والمجتمع النفسية والاجتماعية الثقافية والأخلاقية, فآثاره سلبية كارثية على الاثنين معاً, بترسيخ الأنانية الفردية, ونزعة الشر فيها, وانتشار ثقافة الفساد الهدامة في بنية المجتمع, على حساب قيمه ومثله الإنسانية النبيلة، لذلك لابد من معالجة أسباب الفساد وإزالتها قدر المستطاع, لحماية المجتمع والوطن من هذه الآثار المخربة والمدمرة الهائلة الاتساع والقوة والخطورة.
ولابد بالختام من انه يجب عدم التعميم في هذه الدراسة, حتى لا نظلم الشرفاء في هذا الوطن وهم الأغلبية الساحقة, ونعتذر لمن أصابه خطأ ما وقعنا به عن غير قصد والمسامح كريم.
نصر علي زينو