الجزء الثاني رابعاً: المراقبة والتوجيه والمحاسبة:
تبدأ المراقبة من المواطن العادي، فإذا كان في قاعدة حزبية فالي قيادته المحلية، وإذا كان في إحدى المنظمات الشعبية فالي نقابته، وإذا كان في القاعدة الجماهيرية فالي نائب الشعب في قطاعه، وتتولى كل جهة حسب صلاحياتها وإمكاناتها في معالجة الخلل والهدر والإهمال والتقصير لدى الموظف الصغير تدرجاً إلى القيادة الأعلى فالمسؤول الكبير على مستوى المنطقة فالمحافظة على كامل مساحة القطر، فيكون الجهاز السياسي والشعبي والقضائي مسؤولاً عن أداء كافة الموظفين والمسؤولين الحكوميين المحليين، وكل من له علاقة رسمية مع المواطن في كافة الشؤون الحياتية والمعاشية والأعمال اليومية المتنوعة والملتصقة بأموره المادية والمعنوية وحريته وكرامته وحقوقه وواجباته، ومن هذا المستوى البسيط يبدأ معالجة ومكافحة ظاهرة الفساد في القاعدة الدنيا للهرم.
- وهنا يأتي دور الإعلام بأنواعه المقروء والمسموع والمرئي، بنشر الوعي الصحي وبتكوين رأي عام مناهض لثقافة الفساد، فعندما يبلغ الفساد مبلغاً من التفاقم كبيراً، تتعطل إلى حد كبير آليات الرقابة في الدولة، ويخبو وازع المساءلة والمحاسبة فيها، وعندما يغدو الفساد في صلب ثقافة المجتمع يصعب علاجه، فالفساد لا ينتج إلا المزيد من الفساد. والمشكلة ليست في معالجة وإصلاح من فسد وتسيب وبات لا يحترم القانون والنظام ولا يخشاه، بل المشكلة تكمن في كيفية مواجهة هذه الظواهر السلبية والحد منها وإيقاف عملية تكاثرها وانتشارها كالوباء، فالمجتمع يُرفد يومياً بعناصر جديدة بنت تفكيرها ومنهجها وأسلوب عملها على ما هو سائد ومتعارف عليه، لذلك فان محاربة الفساد وعمليات الإصلاح والتطوير والتحديث والإعداد والتربية الأخلاقية، عمليات متكاملة ومترابطة ومتفاعلة، فالفاسدون يتكاثرون كالجراد وإخطارهم تتكاثر على الجميع... وهكذا يقع على الإعلام دور هام وخطير في نشر ثقافة الصلاح والخير والفضائل الاجتماعية، وحمايتها ورعايتها، وتعميم نماذج صالحة وفاضلة يقتدى بها ويحتذى بسلوكها، والمساهمة الفعالة في عملية التربية الأخلاقية والعقلانية الأصيلة والدائمة بكل وسائله، أي الإعلام، المتاحة، والتصدي للوسائل المضادة لها مهما تنوعت وتعددت، والعاملة على تجهيل الإنسان وتغيبه وإذلاله وهدر كرامته، وفرض عقليات السوق وأخلاقها عليه، بالسعي الجاد والصادق للكشف عن الحقيقة والحق التي هي غاية وهدف الإعلاميين والمثقفين، مهما كان شاقاً عملهم وخطراً وجلاب المتاعب والمشاكل والأزمات لهم، مما يجعلهم دائمي الهم والإضراب والتساؤل، فلا راحة ولا استقرار يعرفون...
وهذا هو إبداع الثقافة الحية، ومصدر قيمتها الذاتية وغنى عطائها لمجتمعها، هذا الجانب الايجابي الواجب على الإعلام الاضطلاع به وأدائه بجدارة وإخلاص وأمانة... ولكن على صعيد الواقع تقوم بعض وسائل الإعلام بالدور الذي تلعبه يساهم في تدني المستوى الثقافي وتفشي الفساد، فالثقافة محتوى لأروع ما أنتجه العقل البشري عبر العصور وغايته الأسمى، لكن الفساد هو الآفة الشرسة التي تسعى إلى إفساد الثقافة بهدف ترسيخ عبودية الجهل وإغلاق منافذ التطور والمعرفة وتشويه دور المثقف والإعلامي، باستخدام سيطرة المال على قطاع الإنتاج الثقافي والفني، وجعل بعض المثقفين والفنانين أدوات مؤجرة في سوق الثقافة...
وأدخلت إلى هذا السوق قيما ومعايير زيفت العملية بمجملها، وجمدت روح الإبداع والتنوير. والفساد في هذا المجال لا يتوقف عند الرشوة والاختلاس ونهب المال العام، بل يتعداها إلى القيم والأخلاق فيزعزعها ويهدمها من الداخل... وفساد الثقافة أو إفسادها، كما يقول صباح ياسين، لا يختلف كثيراً عن ظاهرة غسيل الأموال، فهناك غسيل ثقافي لتحويل مساره وعمله الملتزم باتجاه الاحتواء والتلوث، بالتالي فان القلق شديد على مصير ومستقبل الثقافة والإعلام في خضم هذه الظروف المقلقة أيضاً. ولضمان الحصول على إعلام حقيقي وفعال وشامل، لا بد من إطلاق حرية العمل له، وتزويده بالإمكانات المادية والطاقات البشرية الخلاقة وفتح المجال واسعاً أمامه للحركة الحيوية والنشاط المتنامي والفعال، وإزالة كافة الحواجز المعيقة لهذه الحركة والنشاط المبدعان، هذا بالنسبة للإعلام الرسمي ، أما الإعلام الخاص المتوقع دخوله ساحة العمل والتنافس، فيجب أن يكون حراً ومسؤولاً وخلاقاً تحت سقف القانون والنظام، وبمظلة الأهداف والغايات والثوابت الوطنية والقومية الأصيلة... خاصة بعد صدور قانون للإعلام جديد وعصري المتوقع قريباً جداً، للوصول إلى الأفضل والأجود للوطن والمواطن، أما المثقفون فالحكم لضميرهم الأخلاقي والوطني الإنساني الحضاري، ومجتمعهم هو الذي يقدر ويحترم ويرفع مقام المثقف الجيد، ويسقط المثقف السيئ ومدعي الثقافة الأسوأ، سقطة لا قيام بعدها إلا بالتوبة الطاهرة...
- أما التوجيه والمحاسبة فيقعان على عاتق من بيده القرار والصلاحية والقدرة، فالقوى السياسية بأحزابها الموالية والمعارضة ( بعد صدور قانون للأحزاب علمي وموضوعي وعصري ووطني بامتياز على الأبواب ) إذا مارست المحاسبة الديمقراطية في أحزابها كما ذكرنا فإنها تكون قد سلكت طريقاً صحيحاً للتطهير والتنظيف، وكذلك المنظمات الشعبية والمهنية والمجالس المحلية المنتخبة، ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة والحرة القادمة ( لان المجتمع المدني، كما يقولون، يمثل مجال الحرية الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، وهو مجال مهم لحيوية المجتمعات وقدراتها على توفير الفرص للمهارات الشخصية ) على ارض الحرية والديمقراطية الخيرة والواقعية، وكلها قادرة على المراقبة والمحاسبة والتوجيه والتصحيح والتقويم للأشخاص وللمسارات والإجراءات والتصرفات الخاطئة، وسد الثغرات والنواقص في أداء الجميع بالجزاء مكافأة أو عقاباً صارماً وبالعمل الوقائي للجميع من الوقوع في شرك الفساد والمفسدين والتابعين...
أما دور مجلس الشعب المنتخب ديمقراطياً بحرية ونزاهة خاصة بعد تعديل قانون الانتخاب، لمزيد من التعددية السياسية والديمقراطية والاستقلالية الشعبية، فانه هام جداً وفعال جداً ودائم أبداً، فيمكن أن نورد بعض البنود التي أقرتها لجان برلمانية عالمية لمكافحة الفساد بتصرف، يمكن اخذ منها ما يلاءم لهذه الغاية وهي:
1- تأسيس هيئة وطنية مركزية لمكافحة الفساد وتنسيق عملها مع بقية مؤسسات الدولة المعنية، وبتبادل الخبرة والمشورة معها في كل ما يتعلق بذلك، وتضع برامج مشتركة للجم الفساد ووضعه تحت السيطرة، على أن يتم تحديد صلاحياتهما بشكل واضح ودقيق ومعلن مسبقاً، واعتماد الشفافية في عملهما وإجراءاتهما مزودة بمعطيات كافية عن هذه الظاهرة. وتأسيس فروع للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتنسيق عملها مع بقية مؤسسات الدولة في قطاعها،
2- التصدي للواسطة والمحسوبية كمدخل لمعالجة الفساد، والشفافية في عمل المؤسسات ولاسيما فيما يتعلق بالمقاولات والتعهدات والمناقصات والمشتريات الحكومية، وإبراز حقيقتها بشكل واضح.
3- تأهيل وسائل الإعلام وتدريبها على تعميم ثقافة مكافحة الفساد وفضحه وفضح رموزه أيضاً، وإتاحة الفرصة المتكافئة لكافة وسائل الإعلام الراغبة بحضور جلسات البرلمان، وضرورة بثها على الهواء مباشرة ليطلع المواطنين على شفافية السلطة التشريعية، ومدى فاعلية أعضائها.
4- تشكيل لجان برلمانية فاعلة لتلقي شكاوي المواطنين وعرضها على السلطات المعنية، التي تأسس بدورها لجان محاسبة قادرة على المعالجة والفصل والحسم
5- الإعلان عن ثروات أعضاء البرلمان والمسؤولين قبل تقلدهم مناصبهم، ومحاسبتهم إذا طرأ تحسن غير مشروع عليها.
6- توفير الحماية لمن يدقون ناقوس الخطر، فيما يتعلق بالشأن العام، مما يتعرضون له من تهم وإجراءات قمعية مانعة واستباقية لكّم أفواههم هم وغيرهم بالعبرة.