تحقيق اجتماعي
أصعب ما في العمر أن نصحو على كذبة قاتلة.. أن تكون كل لحظاتنا السعيدة مجرد وهم، وأصعب ما في الوهم أننا نصدقه أحياناً، والمال هو المتهم الأول والأخير عند بعض الناس عندما يصبح في نظر الكثيرين منهم كغيره من الأكاذيب البراقة التي تظهر جميلة مزركشة ملونة كريش الطاووس لكنها تحمل في طياتها الكثير من الآلام والجراح، لا نعرف من أين نمسك بحد السكين فيجرحنا بسهولة، هذه المهارة لا يجيدها كثيرون عندما يرضخون لسطوة المال على حياتهم، ويجدون أنفسهم على مفترق طريق يتطلب منهم أن يدفعوا فاتورة ثرائهم كل يوم، هذا حال الكثيرين من حديثي النعمة! فهل الفقر قناعة والغنى طمع وجشع لا ينتهي؟ هذا ما حاولنا الإجابة عنه في تحقيقنا التالي...
خليك عالأرض لا تعلى كتير!!
لم يتردد " فادي" ولا لحظة بإبلاغ كل أصدقائه أنه مسافر إلى "بيروت" للعمل هناك بعد أن وجد فرصة عمل مميزة، فقد كان يشعر بسعادة بالغة لأن الدنيا ضحكت له أخيراً، حزم أمتعته وودع رفاقه وكأنه مسافر إلى "أمريكا"، واستمر لعدة أشهر يتواصل مع عائلته ويطمئن على صحتهم وهو يزف إليهم أجمل الأخبار عن عمله الجديد في شركة للبرمجيات، وكان الجميع يدعون له بالتوفيق لأنه إنسان ذكي ويحمل شهادة جامعية تؤهله لإبراز قدراته في مجال دراسته بالهندسة، لذلك يستحق أن يشعر بنعمة المال ويحسن وضعه المادي السيئ الذي ظل لسنوات طويلة يرافقه.
مرت الأيام والشهور وكل شيء على ما يرام، لكن الشيء الوحيد الذي تغير هو "فادي" فقد صار يختصر اتصالاته مع رفاقه وأهله، مرت شهور دون أن يجري معهم مكالمة واحدة. المبرر الوحيد كان أنه مشغول!! والجميع ربما اعتاد على ذلك وانشغل كل منهم بمشاغله، لكنهم كانوا يتذكرونه دائماً بالسهرات والحفلات التي يجتمعون فيها مع بعضهم لأنه صاحب نكتة "كما يقولون" ويضفي على جلسات الأصدقاء أجواء المرح والضحك، كانوا يحبونه ويشتاقون إليه لطيبة قلبه وبساطته ولهفته لمساعدة أي صديق يمر بمشكلة وإنه كان معروفاً في الحي بين الجيران بأنه كريم وذو أخلاق عالية.
بعد مرور سنتين على غياب "فادي" فوجئت عائلته به يدخل المنزل، ركض الجميع لاحتضانه والسلام عليه والدهشة تملأ تقاسيم الوجوه وترسم المئات من علامات الاستفهام، لماذا؟ لأن "فادي" يرتدي ثياباً فخمة ويحمل "السيكار" في فمه ورأسه منتصب للأعلى حتى أنهم بالكاد استطاعوا الوصول إلى وجهه ليقبلوه من وجنتيه، سارع الأصدقاء للقاء صديقهم وهم يسألونه بتعجب عن سبب غيابه طوال هذه الفترة، لكنه كان يهرب من الجواب، وزاد الاستغراب عندما شاهدوا "الهدايا" التي أحضرها لهم لأنها باهظة الثمن، لكنه كان يبتسم بتصنع وغرور ويقول لهم :"أنا أصبحت رجل أعمال ومن اليوم فصاعداً ستفاجئون بالكثير من الأشياء وليس فقط بالهدايا"! وبالفعل كانت المفاجآت تتوالى وتتزايد وكل مفاجأة تسبقها كلمة "أنا"، ففي البداية رفض "فادي" أن يقيم له أصدقائه سهرة في منزل أحدهم وصمم على أن تكون في فندق معروف بدمشق، وقال: "أنا سأدفع"، وبعد أيام قليلة اشترى سيارة فخمة وبعدها منزلاً يليق به، وصار يحضّر لافتتاح مشروع تجاري يستثمر به أمواله، لكنه رغم كل هذه التغيرات الإيجابية التي قام بها من الناحية المادية فقد تحوّل إلى شخص أناني مغرور متعالي، وأكبر صدمة تلقاها صديقه "سامر" عندما رفض "فادي" تزويجه من أخته، والمبرر طبعاً كان مختصراً بعبارة :
"أنا لا أزوّج أختي لرجل فقير أو ربما يكون طامعاً في ثروتي". تخلى "فادي" عن أجمل صفاته، واستبعد الجميع من دخول حياة الرفاهية الجديدة التي يعيشها، حتى أنه عندما تزوج رفض دعوة أصدقائه لحفل زفافه الذي تكلل بحضور رجال الأعمال والشخصيات المعروفة في المجتمع، ورويداً رويدا بدأ "فادي" يخسر أمواله في صفقات غير مشروعة ما أصاب والدته بنوبة قلبية توفيت على إثرها وهي غير راضية عنه، أما والده فقد تعرّض لحادث سيارة وبقي في المشفى أيام. ثم توفي دون أن يراه لأنه كان منغمساً في حياة اللهو والسهر، ما جعل أصدقاءه يتخلون عنه عندما طلب مساعدتهم بعد أن أفلس نهائياً، ليكون مصيره في مصح للأمراض العقلية بعد عشر سنوات من الثراء الفاحش، لقد فقد عقله من الصدمة قبل أن يجيب الكثيرين ممن حوله من أين جاء بكل هذه الأموال!! حتى أنه لا يعرف كيف خسرها!!
كذبك حلو.. شو حلو لما كنت شي كذبة بحياتي...
في جانب أخر من الحياة قصة أكثر بشاعة من قصة "فادي" بطلتها سيدة تدعى مدام "روز"، وهذا طبعاً اسمها الفني، فاسمها الحقيقي هو "رمزية"، أما قصتها فهي أغرب من الخيال، لقد عاشت "رمزية" حياتها كالكثير من الفتيات، نشأت في أسرة متوسطة الحال وتعلمت حتى حصلت على إجازة جامعية في مجال التجارة والاقتصاد، لكنها كانت دائماً تنظر إلى صديقاتها الثريات بعين الحسد وتسأل والدتها بسخط شديد: "لماذا نحن فقراء"؟
لم تكن تعنيها الجامعة أبداً لكنها درست بناءً على إصرار أهلها، فهي كانت تحلم بالثراء وتعتقد أن العمل بالتمثيل هو أقصر طريق لتحقيق هذا الحلم، لكن الرياح لا تجري كما تشتهي السفن، فقد رفض والداها دخولها الفن خوفاً عليها بسبب الخوف من المجتمع وكلام الناس وأجبروها على العمل في مجال شهادتها فلم تجد حلاً لمشكلتها سوى بالخداع واستغلال طيبة أهلها، حيث نجحت بإيهامهم أنها وجدت عملاً في شركة محترمة وبراتب مرتفع، ومرت عدة أشهر وهي تخرج صباحاً من المنزل وتعود مساءاً، وأحياناً تتذرع بعمل إضافي وتعود ليلاً، ولم يخطر على بال أحد من أهلها أن يسألوها عن عنوان الشركة لأنهم يثقون بها لدرجة كبيرة ولأنها استطاعت إقناعهم أن الشركة أجنبية ولا يتحدثون فيها بالعربي، لذلك طلبت منهم أن يتصلوا بها على "الموبايل" إذا أرادوا منها شيئاً. لقد استطاع أحد المنتجين المعروفين أن يوهمها بأنه سيصنع منها أكبر نجمة في الدراما السورية لأنها موهوبة وجميلة شرط أن تقبل الزواج منه بالسر، فهو لا يريد مشاكل مع زوجته، وهي اشترطت عليه بدورها أن يدفع لها مهراً كبيراً، وبيتاً يسجله باسمها.
عندما ظهرت في أول دور على الشاشة ربما شاهدها أهلها لكنهما لم يتعرفا عليها لشدة تبرجها والشياكة التي كانت تزين بها جسدها، أما الجيران والمعارف فسرعان ما نقلا الخبر إلى الوالدين اللذين لم يصدقا ما سمعا، وعلى أحر من الجمر اتصلا بها وطلبا منها الحضور للمنزل فوراً، لكنها لم تبال فإن طردوها ستخرج بلا عودة وهي غير نادمة، فقد ملت الحياة ضائعة بين منزلين وتريد الاستقرار في منزل زوجها "العجوز المتصابي" لتتفرغ لفنها وترتاح من اختراع الأكاذيب لأهلها كل يوم، وبالفعل حدث ما توقعته فقد ضربها والدها حتى تورم وجهها، لكنه لم يطردها بل فرت هاربة من شدة الضرب، وهي تعرف جيداً إلى أين تذهب، وعندما عاد زوجها في المساء وروت له ما حدث لم يكترث بل طلب منها المكوث في المنزل ريثما تشفى من إصابتها، لكن الشك بدأ يدخل قلبها عندما استمر زوجها في تكرار هذه الاسطوانة: "ابقي في المنزل أنتِ بحاجة للراحة"، فسألته مستغربة هل يجوز أن أبقى في المنزل أكثر من ذلك لقد تحسنت ويجب أن أذهب معكم إلى "اللوكيشن" لأبدأ تصوير دور البطولة الجديد الذي وعدتني به، لكنه أجابها بكل برود:
"لقد ذهب الدور لممثلة غيرك لأنك كنت مريضة جداً ونحن لا نستطيع إيقاف التصوير". شعرت "رمزية" بالهلع عندما سمعت هذه العبارة لأنه دورها الذي ستتقاضى عليه مئات الألوف وهي طالما حلمت به وانتظرته، لكن زوجها العجوز هدأ من روعها وقال لها: "الأدوار كثيرة لا تحزني، سأعطيك دور آخر ومختلف". وقد وفا بوعده لأن الدور الذي قدمه لها كان فعلاً مختلفاً فهو دور ثانوي لا يقدم ولا يؤخر في المسلسل ما أثار سخطها وغضبها وجعلها تنفجر في وجهه كالبركان وهي تطلب منه الوفاء بوعده لها وإلا ستخبر جميع الناس وزوجته بزواجهما السري، وهنا ما كان من الزوج إلا أن وقف أمامها وتلفظ في وجهها بثلاث كلمات خرجت من شفاهه بهدوء متناهي وقال لها: "كم أنتِ غبية! الورقة التي تثبت زواجنا مزقتها منذ أشهر ولا تستطيعين إثبات شيء والشيء الآخر الذي لا تعرفينه أنني لا أتزوج من فتاة أكثر من سنة واحدة لأنني أحب التجديد في حياتي، ونسيت أن أخبرك أن المنزل استأجرته لمدة سنة تستطيعين البقاء به لحين أن تتدبري أمورك، وإياكِ أن تحاولي الاتصال بي" ثم خرج يصفق الباب خلفه بقوة.
بيبعت الله كبير .. بيبعت للفقير..
أما أن نحسن استخدام المال كوسيلة وليس كغاية فهذا كان حال "أبوأدهم" الذي عاش طوال حياته فقيراً بل معدماً، لكن الظروف شاءت أن يتحول من "عامل تنظيفات" إلى "مليونير"، والسبب ورقة يانصيب اشتراها بعد إلحاح من صديقه عامل البناء "سالم"، حيث اقتسم الصديقان الورقة وإذا بها تربح في اليوم الثاني جائزة الـ 10 مليون!! لكن القناعة بالحياة كانت شعار الصديقين اللذين حققا بهذا المبلغ الكبير كل طموحاتهم، بعد مرور سنة واحدة فقط أنجز الصديقان أهم المشاريع في القرية الصغيرة التي ولدا فيها ولم يبقى ولا رجل واحد عاطل عن العمل في هذه القرية الفقيرة جداً التي كانت تشكو البطالة والعوز. أما الآن وبعد مرور عشر سنوات فقد صارا صاحبي أهم شركات تصدير المواد الغذائية ويملكان الكثير من العقارات والمشاريع الأخرى، لكن البساطة والتواضع والكرم كانت ومازالت صفات لم تتغير في أي منهما!! فما أجمل الحياة عندما نكون قادرين على اقتناص السعادة الحقيقية منها.
المال يتحول من نعمة إلى نقمة!!
تؤكد الدراسات والبحوث النفسية، أن أكثر الحالات التي تتعرض لصراعات نفسية بسبب التحول المفاجئ في مسار الحياة والانتقال من حالة مادية سيئة أو عادية إلى حالة ممتازة تقع في هذه الصراعات لأسباب عديدة أهمها: كما تقول المرشدة النفسية التربوية "هدى أبو الحسن": "السبب الأول لوجود هذه الصراعات النفسية هي عقدة النقص، حيث تظهر الرغبة الجامحة داخل الشخص الذي كان فقيراً وأصبح غنياً بأن يعوض ما كان ينقصه، وهذه العقدة تظهر بعد التحوّل المادي الذي يحدث في حياته، حيث يعيش حالة من انفصام الشخصية بين الماضي والحاضر، وتتشتت أفكاره بين المحافظة على قناعاته وتصرفاته القديمة أو نسفها والبدء في حياة جديدة مع أشخاص آخرين، وجراء هذا الصراع تتذبذب تصرفاته مع المحيطين ويجرح من حوله عن قصد أو بدون قصد، والقلة من الأشخاص حديثي النعمة يحافظون على توازنهم النفسي وينجحون باستغلال المال بما فيه سعادتهم وسعادة من حولهم ليكون وسيلة وليس غاية.
أما السبب الثاني فهو الذكاء والنضج العقلي والنفسي عند الإنسان والذي يساعده على استغلال المال بدلاً من أن يستغله المال، وعندما لا يستوعب العقل الوضع الجديد والحياة المختلفة المليئة بكل مباهج الحياة يصبح المال سبباً رئيسياً يقود إلى الانحراف أو الجنون أو الجريمة.
أحياناً نتصوّر أن مرايانا تحمل أبهى صورة مرتسمة عليها لكن الجمال الحقيقي دائماً يحتاج إلى مرايا الداخل.
"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما إلى قلوبكم وأعمالكم"