ثمة أسباب كثيرة جعلتني أتناول هذا الموضوع الذي يحلل مشكلة قائمة بين الأجيال "الآباء والأبناء"، وما يترتب على هذه المشكلة من نتائج وآثار، لكن السبب الرئيسي الذي دفعني لكتابة هذا التحقيق هو انتحار صديق أخي "شنقاً في غرفته"، لأن أهله لم يوافقوا على زواجه من الفتاة التي أحبها، لقد أرادوا تزويجه من أخرى "يرونها مناسبة له أكثر من غيره"!!
"طيف" الذي بلغ من العمر 28 ربيعاً أنهى حياته بيديه عندما تعذر إقناع أهله بفتاة أحلامه، فارق الحياة وعبّر عن تمرده بعنف مفضلاً الموت على الزواج حسب قناعات أهله، رحل "طيف" الشاب الوسيم الذي كان مثالاً للأخلاق ومحبة الناس ولم يبق منه إلا رسالة أحرقت قلب الأم والأب قال فيها: "أهلي يا أعز الناس، اخترتم لي حياتي.. لكني اخترت موتي.. عيشوا حياتكم بندم من بعدي.. ودعوني أعيش سعادة موتي.. وداع"!! والسؤال: من يدفع فاتورة هذا الموت الشنيع لشاب في مقتبل العمر؟؟
هل سمعتم نداء المحبة؟ أولادكم ليسوا لكم.. أولادكم أبناء الحياة؟؟
قصة أخرى تشبه قصة "طيف"، لكنها تختلف عنها بالتفاصيل، بطلها شاب يعمل مدرباً رياضياً في إحدى النوادي المعروفة، الشاب يعيش مع والدته بعد وفاة والده، وقد أحب إحدى فتيات الحي الذي يقطنه، وهي أحبته أيضاً، استمرت العلاقة بين رفض الأهل وقبولهم فترة طويلة، لكن الرفض سيطر على الموقف في النهاية، والسبب "حسبما بررت الأم" وجود خلافات بين العائلتين، فلا أهل الفتاة يوافقون على إتمام هذا الزواج، ولا والدة الشاب أيضاً!!
الصراع بين "فواز" ووالدته أدى إلى تركه منزل العائلة، لكنه لم يستفد شيئاً، فقد أدى مرض والدته ودخولها العناية المشددة إلى عودته مسرعاً طالباً رضاها، كان حنوناً وعطوفاً عليها طوال عمره، نسي أوجاعه ووافق على ترك حبيبته التي عانت الأمرين مع أهلها أيضاً، مقابل أن تتعافى والدته وتعود إلى صحتها، لكن الكارثة هي فكرة زواجه من ابنة خالته التي سيطرت على تفكير الأم بعد شفائها!!
لم تستغرق موافقة "فواز" وقتاً طويلاً، لأنه استسلم لخيار الأم وقرر أن يمنحها السعادة من تعاسته خوفاً من موتها وغضبها عليه، وبينما كانت الأهازيج مقامة في بيت العريس استعداداً للعروس القادمة فوجئ أهل الحي بأصوات البكاء والصراخ من المنزل المجاور، وعندما اقتربوا وجدوا حبيبة "فواز" جثة هامدة!! موتها بالسم كان أهون من رؤية حبيبها زوجاً لغيرها!!
ضياع..انحراف..هروب..لجوء إلى أي شخص أو مكان!!
عندما يتحول خوف الأهل على الأبناء إلى ما يشبه لعبة شد الحبل بين الطرفين، وتنقلب المحبة إلى مسألة تحدي وعناد وفرض سيطرة، لن تكون النتيجة إلا سلبية حتماً، وقول الأهل: "إننا نفعل كذا وكذا من أجل مصلحتكم" جملة لن تجدي نفعها في كثير من الحالات، خصوصاً إذا تحول سلوك الأهل إلى فرض الأوامر، سواء في تعاملهم اليومي مع أبنائهم، أم بتحديد مستقبلهم ومصيرهم الدراسي والعملي، الأهل أكثر خبرة من الأبناء ربما، لكن اختلاف الزمن الماضي الذي عاش فيه آباءنا عن عصرنا الحالي يحتم على الأهل حتماً أن يفكروا بآلية جديدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً مع التطورات العصرية والتكنولوجيا والانفتاح على المجتمعات الأخرى والعالم، هذا الأمر يعرفه معظم الآباء، لكنهم يفشلون بالتعامل معه كواقع معاش، ما يؤدي لوجود مشكلة تترتب نتائجها على هروب الأبناء المتكرر من مناقشة الأهل، وربما هروبهم من المنزل أيضاً إلى فضاءات أخرى سلبياتها أكثر من إيجابياتها، والنتيجة طبعاً انحراف الأبناء.. ضياع في تحديد مسار الحياة.. قلق وتوتر ولجوء إلى أي شخص أو مكان.. وأحياناً استسلام لمتطلبات الأهل للتخلص من كل الضغوطات بحثاً عن الشعور بالراحة.
تقول "رن" طالبة جامعية في كلية الهندسة : "رغم إيجابية أن يحيط الأهل أبنائهم بالحب والعطف والرعاية والاهتمام، إلا أن التدخل الزائد بحياتهم له أضراراً جداً سلبية على حياة الأبناء، فبعض الأهل لا يسمحون لأياً من أبنائهم أن يناقشونهم بأمر ما ويعتبرون ذلك أمراً معيباً، بينما الأبناء يريدون إيصال أفكارهم ورغباتهم للأهل، والصرخة وإن كانت مكتومة أحياناً فهي تقول : "اسمعونا افهمون" فما الذي يحدث؟؟ وكيف سنقرب المسافة بين وجهات نظر مختلفة؟؟ هذه مسألة شائكة ولا أعتقد أن لها حل جذري".
أضعت خمس سنوات من عمري بسبب أهلي!!
من جهة أخرى نرى الكثير من الأهل يختارون لأبنائهم التوجه الدراسي بناءاً على رغباتهم " كحال "فاتن" التي أجبرتها عائلتها على دراسة "الإعلام" لأنها حصلت على علامات مرتفعة في الثانوية العامة، رغم رغبتها بدراسة فرع آخر، وبعد تخرجها بدأت المعاناة: " فالتدريب الذي استمر لأكثر من 6 أشهر لم يجعلها تحب مهنة الصحافة، وكانت تجد صعوبة في كتابة أو صياغة أي خبر صغير أو إعداد أي مادة تطلب منها، أما الطامة الكبرى فقد كانت تحدث عندما يتم تكليفها بإجراء لقاء أو تحقيق ميداني، لأنها تكره البحث والتفتيش، ولا تحب الاختلاط بالناس، حتى أنها خجولة جداً، وعندما تلتقي شخصية ما لإجراء حوار معها ترتجف أطرافها ويحمّر وجهها وتكاد تنسى الأسئلة التي تريد طرحها على الضيف، كل هذه المواقف أدت إلى فشلها بالصحافة، أما الآن فهي تعمل منضدة على الكمبيوتر في إحدى المؤسسات، تقول: "أضعت 5 سنوات من عمري بسبب أهلي، حلمي بدراسة الموسيقا تلاشى ولم يعد عندي رغبة أو دافع لأي شيء".
المحبة الزائدة من الأهل هي سيف ذو حدين، لأنها تتحول إلى أنانية وتحرم الأبناء من تأكيد شخصيتهم وقناعاتهم في كثير من الأحيان، وهذا حال "سامي" الذي لم يتمكن من السفر بعد أن عرضت عليه فرصة عمل مميزة، والسبب عدم قدرة والده على مفارقته وتعلقه الشديد به، شعر "سامي" بالخجل الشديد من رفاقه عندما واجه ذلك الموقف، وتوسل لوالده أن يسمح له بالسفر، لكن أبوه هدده بقطع المصروف عنه إذا هو أصر على السفر، يقول "سامر": "منذ ذلك اليوم وأنا أشعر بنفسي إنسان بلا وجود أو شخصية، لا يحق لي أن أقرر أي مسألة بمفردي، والدي يتدخل بكل تفاصيل حياتي رغم بلوغي الـ30 سنة، الهروب من المنزل كان هو الحل الوحيد، اعتدت السهر لأوقات متأخرة مع أصدقائي، وأدمنت على المشروبات الكحولية، ولم أعد أفكر في مستقبلي، أعتقد أني مصاب بالاكتئاب".
من جهة أخرى تقول "سمر" مصممة أزياء : "أسلوب أهلي بالتعامل معي الآن مختلف، رغم أن الهوة بيننا كانت واسعة جداً أثناء دراستي بالجامعة، والسبب أنهم كانوا يتعاملون معي بطريقة الإجبار وتنفيذ الأوامر، ما كان يدفعني إلى التمرد والعناد والقيام بكل ما ينهوني عنه بالسر، وبعد أن نضجت وتعلمت أشياء كثيرة من هذه الحياة اكتشفت أن أهلي كانوا على حق لكن أسلوبهم هو الذي كان خاطئاً فقط، وهم بدورهم اتبعوا معي طريقة أخرى بالتعامل، أي أننا توصلنا إلى صيغة من التشاور والحوار حول كل الأمور، وبالنهاية يتركون لي الحرية بالقرار النهائي في أي موضوع يخصني".
هل نزين الانحراف باسم الحرية لنبرر أخطائنا؟
المرشدة النفسية هدى أبو الحسن توضح: "دور البيت لم ينتهي، وليس على كل شاب أو فتاة أن يفعلوا ما يحلوا لهم دون حسيب أو رقيب، فنحن كأخصائيين تربويين ونفسيين لا نبرر لجيل الشباب حالات الانفلات واللامبالاة والاستهتار والفوضى التي يعيشون فيها أحياناً تحت مبرر "أننا في زمن الحرية"، كما أن كلمة حرية تكاد تكون فضفاضة عند بعض الشباب، فتتحول الوقاحة إلى حرية، وبناء علاقات عاطفية منحرفة عن النظم الأخلاقية إلى حرية، وغير ذلك، لذلك نقول أن مراقبة الآباء لأبنائهم حق وواجب، لكن حسب أساليب تربوية مرنة قد يجهلها بعض الآباء، للأهل الدور الأول والأساسي في رسم الخطوط العريضة للعائلة ضمن حدود الحوار والتشاور والتفاهم والإقناع والتوافق والتعاون مع الأبناء، مع توجيههم ومساعدتهم على تقرير مصير حياتهم، والوقوف إلى جانبهم في تجاوز مشاكل ومصاعب الحياة، للوصول بهم إلى بر الأمان".
لكني أقول لكل أب وأم أيضاً: "الحياة الأسرية ليست صراع على السلطة وعراك يومي على فكرة من يكون هو الطرف المسيطر أو الأقوى، بل هي حياة مبنية على المشاركة وتقريب وجهات النظر، دعوا أبنائكم يختارون حياتهم، يخطئون ليصيبون، ويتعلمون من تجاربهم، فهم بناة المستقبل وعماد الحياة، كونوا عوناً لهم في الضغوطات والمصاعب بدلاً من أن تكونوا عبئاً إضافياً في حياتهم، اغرسوا قيم الاستقلالية في نفوسهم وعلموهم تحمل المسؤولية وحرية التصرف، مع أهمية وجود الحزم والقسوة أحياناً، راقبوهم عن كثب لتكونوا سنداً لهم عند الوقوع بالخطأ وتقبلوا أفكارهم دون التدخل المفرط في شؤونهم، فوجود هامش من الحرية للأبناء في تقرير مصيرهم هو الأساس المتين لتعميق روابط الأسرة وإشاعة جو السعادة والتوازن فيها، حاولوا بناء صداقة حقيقية مع أبنائكم، امنحوهم الدفء والأمان لكي يستطيعوا أن يمنحوه لأحفادكم، ففاقد الشيء لا يعطيه.