من شر حاسد إذا حسد..
العيـــن والحســد في المـــيزان..
قيل عن العين والحسد الكثير من الأقوال والمئات من العبارات فالعديد من الناس يعتقدون أنهم قد خسروا أموراً إيجابية عديدة بسبب الحسد، ويقولون في هذا المجال: "عين الحسود فيها عود"، ويذهبون إلى أبعد من ذلك عندما يصفون العين التي تصيب الآخرين بالأذى بقولهم: "العين تسبق اللسان أحياناً". وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" (رواه مسلم في كتاب السلام والترمذي).
الكثير من الناس في عصرنا الحالي يلجؤون إلى قراءة الأذكار وتعليق التمائم للحماية أو العلاج من العين، وهناك من يقوم بسكب الرصاص أي إذابة قطعة من الرصاص وصبها فوق وعاء معدني يوضع فوق رأس الشخص المصاب بالعين، وذلك لاعتقادهم بجدوى هذا العمل لمنع العين الحاسدة من استمرار تأثيرها المؤذي، وذلك لأن الرصاص معدن كتوم يمنع أي نفاذ من خلاله، وهو عازل جيد، ومن هنا كان الاعتقاد بأنه يمنع تأثير العين، ومنهم من يلجأ إلى الصدقة لإيمانهم بأنها تبعد البلاء .
العين والحسد عبر العصور
اختلفت الممارسات والأفعال التي اعتقد بها الإنسان في التصدي للعين على مرّ العصور، فالفراعنة والفينيقيون اتخذوا العديد من الأحجبة والتعاويذ والخرز الأزرق للوقاية من العين، واعتبروا أن الكحل أيضاً يحمي من العين الشريرة أو الحسد.
بينما تعرّف الإغريق على الحسد من خلال ما جسّدته إلهة الحسد "فتونوس" من أثر سيئ للعين الشريرة. أما عرب الجاهلية فقد تعددت عندهم أنواع الرُّقى التي استعملوها لدرء شر العين عن الإنسان والحيوان ومنها الــكـحـلــة، الــودعــــة، وغيرها...
وكان للخرزة الزرقاء في العصر الجاهلي النصيب الأكبر في الاعتقاد بقدرتها على رد الأثر السيئ للعين أو على الأقل منعها، حيث يُعتقد بأن اللون الأزرق عبارة عن دريئة تكون حاجزاً بين العين الشريرة وبين الشخص المحسود، وكأنها مغناطيس يمتص النظرات السلبية. وكان للخشب نصيب من هذا الاهتمام فقد اعتقد بعضهم أن "نقر الخشب" يصدر صوتاً يشتت ذهن صاحب العين فيمنع تحديقه في الأمر وبالتالي يبعد الأثر السيئ حيث إن لا علاقة للخشب بمقاومة الحسد، وإنما الغاية هي تشتيت انتباه الحاسد ولفت نظره إلى شيء آخر.
ونظراً لأهمية البحث وخاصة لما لهذا الموضوع من تجاذبات بين التكذيب والتصديق، بين الرفض والقبول، كان لنا هذا الاستبيان لشريحة اجتماعية مختلفة:
أبدت السيدة "هدى الزغيّر" وهي مرشدة نفسية رأيها في هذا الموضوع:
" الحسد أمر مقصود يعود لمشكلة نفسية موجودة عند الحاسد لكنه لا يؤذي، وهو حالة إرادية وطبيعة بشرية، كما أنه يختلف من شخص لآخر، وليس بالضرورة أن يكون الحاسد إنساناً فاشلاً كي يحسد الناس".
وتضيف: "نتعرّض للحسد والعين من الأشخاص المقربين، لكن الشخص الغريب يصيب بالعين فقط ولا يحسد، أما حل هذه المشكلة فيكون بتجنب الاختلاط بالآخرين الذين نشعر أنهم يحسدون أو يصيبون بالعين".
عائلة بأكملها تصيب بالعين!!
عائلة بأكملها تصيب بالعين في إحدى المناطق الريفية "حمد وأخوه محمود ووالدتهما"، وهي عائلة اشتهرت بتأثير نظراتها السيئة على كل من يصادف طريقها فكلما نظر أحدهم إلى شيء وأعجبه بشدة يصاب هذا الشيء فوراً بالأذى، سواء كان شخصاً أم حيواناً أم جماداً!! الناس في القرية تخاف الاختلاط مع هذه العائلة، ويحاول الجميع تجنبها قدر الإمكان، وأحياناً يخفون عنهم ولادة طفل جديد أو شراء مقتنيات جديدة لمنازلهم خوفاً من عيونهم، ولكن هذه العائلة لا حول لها ولا قوة فهي تصيب بالعين دون أن تقصد ذلك، وحتى لو قال أحدهم: "ما شاء الله" أو لم يقل فالأمر سيان!! لأن عيونهم قوية أو حارة جداً "كما يقولون".
الرهان على الأذى!
بالمقابل هناك أشخاص يصيبون بالعين وهم يتعمّدون ذلك كحال "كمال" الذي راهن لأكثر من مرة مع رفاقه على أذية أشخاص أو ممتلكات، وفعلاً كسب الرهان بعدما اعتقد الآخرون أنه يمازحهم، حيث قال لهم مرة: "هل تراهنون على أني أستطيع إسقاط هذه الصخرة الموجودة في أعلى التل"، وقد أكد الأشخاص الذين كانوا حاضرين أثناء هذه الحادثة بأن "كمال"عندما نظر للصخرة، وركز بصره عليها، وتمتم ببعض الكلمات سقطت الصخرة التي بلغ طولها مترين وانكسرت أمام الجميع إلى نصفين"، وبعد أكثر من حادثة أصبح أهل المنطقة يرفضون استقبال "كمال" في بيوتهم خوفاً من عينه!
الإصابة بالعين وموقف الشريعة الإسلامية
الدكتور"علاء الدين زعتري" الأمين العام لدار الإفتاء في الجمهورية العربية السورية قال لنا في هذا المجال: "الحسد والتحاسد مجمع الآفات، ومستنقع الشرور والرذائل، وإن من سهام الناس القاتلة التي تمزق العلاقات هي الإصابة بالعين، يُبتلى بها من كان غافلاً عن الأوراد الشرعية، وفي الحديث الشريف: "أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين" (مسند، رواه البخاري).
وفي الشريعة الإسلامية: العين حق بأمر الله عزّ وجلّ لا مماراة فيها، ثابتة بالكتاب والسنة وبواقع الأمم المتكررة، ومما يدل على أن العين حق سورة الفلق: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ" (سورة الفلق).
وليتق الله العائن "الذي يصيب بالعين" وليذهب من قلبه الحسد إن وجد، وإلا فليطفئ نار إعجابه بالشيء بذكر الله ـ سبحانه ـ وليدفع شر عينه بقوله: (اللهم بارك عليه)
ولا بأس على المرء، في أن يتحرز من العين، بستر محاسن من يخف عليه من العين، بما يقيه منها، أو أن يعوذه منها بالتعويذ الشرعي أي بالرقي.
والرقية تكون بآيات القرآن، كالفاتحة وآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين، وغيرهما من آيات القرآن الذي أنزله الله هدى وشفاء، وكذا بالأدعية النبوية الثابتة.
وفي الديانة المسيحية...
المطران مارغريغوريوس الياس طبي - رئيس أساقفة دمشق للسريان الكاثوليك- يتحدث قائلاً: "الحسد كتعبير الغيرة فهو المحرك للعاطفة الإنسانية، وقد يكون إيجابياً أو سلبياً".
ويُذكر في سفر الخروج من الكتاب المقدس بالعهد القديم تفسير للغيرة بأنها صفة إيجابية والحسد بأنه صفة سلبية
يقول الله عن نفسه: سفر الخروج 20/5" لأني أنا الرب إلهك إله غيور"
وفي مرجع يشوع بن سيراخ من العهد القديم40/4 يقال: "مِن الجالس على العرش في المجد، إلى الوضيع الذي على التراب والرماد، من اللابس الأرجوان والتاج، إلى الملتف بالكتان الخشن، ليس هناك إلا غضب وغيرة، واضطراب وجزع وخوف من الموت وحقد وخصومة".
وبالأمثال يقولون: "سكينة القلب حياة الأجساد، والحسد نخر العظام".
أي أن جسد الحاسد هو الذي يبلى، وتعود أذية الحاسد على نفسه" "
في العهد القديم كان يُنظر للحسد على أنه من أسوأ الأمور البعيدة عن الأخلاق الحميدة، كما كان يشار دائماً إلى أن الإنسان الحسود يحارب نفسه، وبشكل عام فإن الحسد هو نوازع النفس التي تتحدد شدتها حسب الشخص والهدف من الحسد.
السيد المسيح لم يدخل في هذه المواضيع بل ركز على المحبة بشكل عام، ومحبة القريب بشكل خاص، وفي كل الأحوال هذه العواطف هي من علم النفس والأخلاق، والدين يتطرق إليها من باب الحديث عن أخلاق الإنسان ولذلك يعتبر موضوع الحسد تابعاً للأخلاق البشرية التي لها علاقة بالتربية، وتهذيب النفس. إذن الحسد موجود ومفروض علينا، وهو بالنهاية فساد أخلاق.
وعن العين تحدث المطران قائلاً: "العين اعتقاد شعبي ولا صلة له بالدين، ولعل التحليل العلمي الذي لا نعرف نسبة صحته، يفيد أن لدى بعض الناس كهرباء في عيونهم وذبذبات قد تتفاعل مع قوة كهربائية لدى أشخاص آخرين وتؤذيهم، لذلك يكون دور الخرزة الزرقاء أن تمتص الأشعة الموجودة في عين الحاسد".
يُذكر في الكتاب المقدس "الإنجيل" لوقا 11/34-35: "سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك سليمة، كان جسدك كله نيّراً، وإن كانت عينك مريضة، كان جسدك كله مظلماً، فإذا كان النور الذي فيك ظلاماً، فيا له من ظلام".
رأي علم النفس:
المحامي الدكتور "محمد خير أحمد الفوال" أستاذ في "جامعة دمشق"- كلية التربية- اختصاص علم النفس، تشريعات الطفولة، اللغة العربية، طرائق تدريس اللغة الفرنسية، وأستاذ في "جامعة السوربون الخامسة" يقول: "موضوع الحسد موضوع قائم بحد ذاته، ولا جدل فيه لكن يجب أن نفرّق بداية بين الغبطة والحسد لأننا في الغبطة نتمنى أن نكون مثل الآخرين، أما في الحسد فنتمنى أن تزول النعمة عن الآخرين، وتكون لنا، والحسد بالنهاية هو مرض نفسي يقتل صاحبه ويقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله"، بمعنى أن ناراً تتغلغل في أعماق قلب الحسود فتأكل شغاف القلب".
أمّا ما بين العين والحسد فيقول د. فوال: "الحسد تأثيره أقل من العين التي تؤذي في أغلب الأحيان، وعن التفسير العلمي للعين يقول إنها: "عبارة عن سهام نيرانية تنطلق من عين أحد الأشخاص الذي ملأ قلبه الغيظ لتصيب إنساناً آخر"، وبعض الأشخاص يقولون عن أنفسهم إن عيونهم تصيب، وأحياناً يتجاهلون الشيء الجميل ولا ينظرون إليه كي لا يصاب بأذى".
ومن جانب آخر يقول:" ويقوم الوضع الاقتصادي في أحيان كثيرة بدور كبير في الحسد فالإنسان الفقير جداً عندما يرى شخصاً يتفوق عليه بأشياء كثيرة يصيبه بالحسد أو العين إلا إذا كان شخصاً قنوعاً، والأمر السلبي الذي لا ينتبه إليه الكثير من الناس هو أن المبالغة في الاعتقاد بالحسد والعين قد يسبب للشخص الأذية والوسواس وهو أمر مكروه اجتماعياً وطبياً ودينياً".
وبذلك يكون الحسد من الأمور التي تؤثر فعلاً على حياتنا، وتحتاج إلى المزيد من الحرص، والكتمان، والإيمان أكثر بما نقوم به حتى تتحول أضراره إلى دافع إيجابي يحفزنا لمزيد من الجهد والثقة بالنفس.