ولا زلت أذكر ذلك اليوم جيدا 5 تشرين الأول عام 1999,, وتحديدا كان يوم ثلاثاء وكان اليوم الرابع من الأسبوع الأول لبدء دراستي في معهد إعداد المدرسين في دمشق..
هذا اليوم كان نقطة تحول في حياتي وشخصيتي لا يمكن أن أنساها أبدا..كانت أيامي الأولى في العاصمة دمشق التي لم أكن حينها أعرف منها إلا المعهد والسكن الداخلي والطريق الواصلة بينهما في حي المزة...كنت أراها غريبة وكبيرة وذات أبنية عالية ,حيث كان أعلى بناء في محافظتي لا يتجاوز الأربع أدوار في ذلك الوقت...
سيصادف يوم الأربعاء 6تشرين الأول عطلة,لذا سيغادر جميع طلاب المعهد إلى محافظاتهم
, وعند انتهاء دوام يوم الثلاثاء وقفت على الباب أحمل أغراضي ولهفتي فهي المرة
الأولى التي أغيب فيها عن المنزل وأبعد فيها عن الأهل كدت أطير من الفرح,وقفت أنتظر
خروج أبناء وبنات محافظتي لنعود سوية وخاصة أن طلاب السنة الثانية كانوا يمتلكون
الخبرة والمعرفة كما كنا نراهم,وسيدلونني على طريق العودة,وكانت مهمة الحجز المسبق
لنا نحن المستجدون توكل إليهم
وقفت أنتظر ..وأنتظر..ومع خروج كل طالب كنت أشعر بالإحباط والخوف أكثر وأكثر,,خرج
الجميع لم يبق أحد في الداخل شعرت بالدوار ,,بدأت أنظر إلى بنايات ال14 كما كانو
يسمونها وأشعر أنها بضخامتها وعلوها تميل نحوي,ثم أدير رأسي نحو أوتوستراد المزة
فأراه واسعا وعريضا جدا ومحشوا بالسيارات فأشعر أنه يستحيل اجتيازه
اتكأت على شجرة على الرصيف المقابل للمعهد ,,كانت المرة الأولى لي في دمشق لوحدي
لاأعرف أحدا وحتى أنني خلت نفسي لا أستطيع التكلم مع أحد,لم يكن اختراع الموبايل
موجودا إلا مع قلة قليلة من السوريين ,لا أعرف إسم المنطقة التي يقع فيها كراج
البولمان (البرامكة),, ولا اسم السيرفيس الذي سيوصلني إليها .وطبعا كان من المستحيل
الركوب في تاكسي لوحدي في دمشق بعد توصيات الأهل والأقارب والأصدقاء....
((عندما أذكر هذه اللحظات اليوم أضحك كثيرا ,ولكنها كانت صعبة جدا في حينها ومهمة
جدا أيضا لي فيما بعد))
المهم وبعد أن لملمت نفسي وبعد الكثير من الأسئلة والاستفسارات وصلت إلى الكراج
,كنت متعبة جدا..وقعت عيناي أثناء دخولي من الباب على شباك البولمان المنطلق إلى
السويداء (الكرنك حينها)لأرى فيه بنات المعهد وقد جلسن في مقاعدهن وغادرن غير
مكترثين بإلحاحي وتوصياتي لهم في الأيام السابقة بأني لاأعرف الطريق,شعرت بأنني طفل
تائه في مدينة غريبة وكبيرة..
ركضت نحو المكتب ومددت يدي إلى كوة الحجز ليسبقني إليها شاب ويحجز المقعد الوحيد الشاغر في ذلك البولمان,والذي كان الأخير يومها حيث كل الرحلات التالية محجوزة مسبقا وبشكل كامل ..ليقول لي موظف الحجز أعتذر لم يبق مقاعد إجلسي على المقعد وانتظري عل أحد الركاب يتخلف عن موعده,,جلست على المقعد ولم أعد أدري كيف كانت الدموع تتسابق للتساقط من عيني ,,واختفى العالم كله من حولي حتى أتى ذلك الصوت ليقول لي (شو بك يابنتي)تمسكت بحبال الصوت وقلت له (بدي أهلي ..بدي روح لعند أهلي ومافي حجز ,وين بدي روح)
ابتسم وقال(ولا يهمك يابنتي طلعي عالباص واختاري أي مقعد فاضي وقعدي في وماتخافي
أنا بدبر الشب صاحب المقعد ,,ولو يابنتي معقول نتركك هون لليل ماتخافي)في هذه
اللحظة شعرت بأمان الدنيا وقد تسلل إلي وطرد كل الخوف مني,كم حملت هذه الجملة من
راحة وسكينة لي , هذا الرجل الذي اكتشفت أنه سائق البولمان وقد أجلس شابا كان من
المفترض أنه حجز المقعد الذي جلست عليه إلى جانبه
كنت طيلة الطريق الواصلة من دمشق إلى السويداء أفكر وأحدث نفسي أنها المرة الأخيرة
التي سأكون فيها ضعيفة ومعتمدة على الآخرين فيما يخصني أيا كان الأمر ,وفعلا عدت
بعدها إلى دمشق بشخصية جديدة مختلفة تماما ,وتعرفت بعدها على هذه المدينة
العظيمةوشوارعها الواسعة وحاراتها الشعبية الضيقة وأصبح ياسمينها يعانق روحي إلى
الأبد,, ولا أدري ماالذي ذكرني اليوم بتلك الحادثة بالتحديد.
دمشق أنت علمتيني كل شىء عن ذاتي وعن الآخرين,,اشتقت إليك
حافظي على نفسك دمشق حبيبتي ,حتى نعود إليك ونمشي ثانية في شوارعك ولكن هذه المرة
واثقين من أنفسنا ومنك أكثر........................