بينما كانت تهم بقطع الشارع لتلبي نداء ثوب أسود ناشدها من بعيد في أحد الواجهات المقابلة، مر موكب زفاف كبير، بسيارات كثيرة وورود أكثر، كانت العروس تقف كأنها أميرة الثلج في سيارة جيب بيضاء مكشوفة ومغطاة بورود بيضاء ووردية رائعة في تناسقها وكأنها عرشت بالفعل على تلك السيارة ،وبدت نسمات الهواء تداعب طرحتها القصيرة بغنج.
ياله من ثوب، ثوب الزفاف من أين يأتي بكل ذلك الصفاء ليدثر به من ترتديه ، كيف بإمكانه أن يضفي كل هذا الوقار الأرستقراطي على فتاة عادية ما إن تلبسه حتى تتحول إلى ملكة بهيبتها وجمالها.
قفز إلى مخيلتها ذلك اليوم..
لا يمكن أن تنساه طيلة حياتها
كان التاسع من ديسمبر تحديدا، يوم زفافه
هي كانت على علم بأنه سيتزوج فبمدينتها لا يمكن للسر أن يبقى سراً لأبعد من همسة . وقد منت نفسها هي آنذاك أنها قد شفيت تماما منه بعد مضي كل تلك الأحلام ...
هي لم تهدي قلبها بعده لأحد، فليس بمقدورها أن تمثل الحب قبل أن تتعافى منه ...
لم تكن قد غادرت البلاد بعد ((تتساءل اليوم، هل كان هذا هو السبب الحقيقي لحزم حقائبها بتلك السرعة والمضي هرباً ))،،،كيف إذاً كانت تدعي أنها شفيت منه، في ليلة زفافه تظاهرت بأن لاشيء يحدث خارج المنزل وداخل قلبها ، كانت تحاول جاهدة أن تثبت لكل من حولها أن أمره لايهمها أبداً،لكن من يستطيع إخماد ألسنة النار التي لسعت روحها وقلبها من الداخل وكيف لها أن تخفي رائحة الحرائق المنبعثة من جدران قلبها المتفحم.
لا أحد ممن حولها كان يدري بما كان يجري خارج جدارن ذلك المنزل وداخل جدران قلبها، ولا أحد كان على علم بعد بأنه سيتزوج اليوم إلا هي ...
لملمت فتاتها بيديها ، وجبرت انكسارها إلى أن أصبحت في غرفتها لوحدها، أغلقت الباب وانتحبت باكيةً حتى ليكاد صوتها يصل إلى السماء ، نفس السماء التي يرقص تحتها هو الآن فرحاً بعروسه
كانت نوبات البكاء المرير قد وصلت إلى مسامع أمها التي تسمرت خلف الباب حائرة، لم تحاول قط أن تفتح الباب عليها وتباغت حرمة البكاء، فلطالما احترمت كبرياء دموعها، كانت تقف وراء بابها منفطرة القلب على صوت بكائها الموجع وروحها الكسيرة ...
أغشي عليها في تلك الليلة لكثرة ماأفرغت من روحها دموعاً وحرقة، لكن تلك الدموع بردت قلبها وأخمدت فيه النيران فيما بعد
يومان لا أكثر كان الخبر قد وصل إلى مسامع الأم وعرفت تماماً ماحل بابنتها ذاك اليوم ...لكنها لم تفاتحها أبداً بذلك لاحينها ولا فيما بعد
هو الآن ينتمي لغيرها تماماً، هي التي كانت أحق النساء به...
حتى اللحظة، ومن بين كل المبررات التي اختلقتها له لم تجد مبرراً واحداً لارتباطه بأخرى
أحبها هو حد الجنون، وأرهقها حد الانكسار
أنهك قلبها لكثرة ماهجره وعاد إليه ، في كل مرة كان يقتل جزءاً منه، ويصقل من روحها الخام جزء آخر.....
إلى أن هجرها بزواجه مرةً أخيرة وإلى الأبد، أو أنها هجرته هي بعد زواجه إلى الأبد لا تدري
،هي لم تتصرف يوما عكس مبادئها، ولايمكن أن ترضي قلبها على حساب أخرى مطلقًا، أخرى لم تغر منها قط بل أشفقت عليها دائماً...
تذكر تماماً كم كان خبر زفافه صاعقًا ومدوياً ..حد أنها شعرت بالشلل في أطرافها وحواسها وفقدت الإحساس بكل ما يجري حولها، فقط كانت تتخيله في كل لحظة تلك الليلة
تتخيل كيف يضحك ، كيف يحضن عروسه ويراقصها، كيف يبتسم للحضور ويلوح بيده
ماالفائدة من كل ذلك الآن، فقد رحل والحياة استمرت بعده
ولكنها لم تعد كما كانت قبلاً
هي ماقبل هذا الرجل، غير مابعده
هو شطر حياتها إلى نصفين، نصف قبله ونصف بعده
لقد اختلف كل شيء..........
أفزعها صوت بوق متواصل انطلق من إحدى السيارات التي فوجئت فيها في منتصف الطريق وكادت أن تصدمها وكأن اليد التي ضغطت عليه التصقت به إلى الأبد. غطت وجهها بكفيها وتسمرت في مكانها تنتظر أن تتطاير نثرات روحها مع الهواء لكنها انتظرت طويلاً ولم يحدث شيء أزاحت كفيها قليلاً عن عينيها فإذا بالسيارة تقف ملاصقة لها دون أن تلمسها تماما وعينان تعرفهما جيداً تنظران إليها من خلف المقود وتنقطان دهشة..
هو إذاً لم يكتف بكل ذلك الموت، جاءها بموته مرةً أخرى على شكل حادث قضاء وقهر، وكأن القدر يضعه في طريقها كل مرة ليقتلها من جديد، وكان الموت يقاربها قيد شعرة على يديه، ثم يقهقه ضاحكا وبغمزة تواطئ يقول لها لا ليس الآن، وليس هنا..........