هناك من يهوى روائح الأحقاد النتنة فهي وحدها من تنعش ذاكرته وعقله النتن ،وبدونها لا يستطيع العيش !! بل إن استنشق رائحة المسك العربي ، فقد تموت روحه ويتوقف محرّك قلبه الذي يشتغل على فضلات مزابل التاريخ وأحقاده !! .
في تاريخنا الإسلامي كما في تاريخ كل الشعوب والأمم محطات تنبعث منها روائح التاريخ النتنة والمقزّزة ، ومحطات أخرى تفوح منها روائح المسك والعنبر ، ولكن هناك من لا يرغب بالتوقف إلا عند المحطّات الأولى ويختزل تاريخنا كله بذلك ، فيعكسه كله تاريخ حقد وحروب وقتل ونهب وسلب وتقطيع رؤوس !!.
لقد عاشت أوروبا ، كما عشنا، تاريخا دمويا في بعض محطاته .. وحروب دينية ومذهبية لا ترحم في أواخر عصورها الوسطى التي امتدّت ألف عام ، من القرن الخامس الميلادي وحتى القرن الخامس عشر .. ثم حروب سياسية حرقت الأخضر واليابس وحصدت أرواح عشرات الملايين في العصر الحديث وخلال حربين عالميتين !!.. ولكن عقولهم وتفكيرهم لم تتوقف وتتبسمر عند تلك الحروب ، ولم يستمروا بالنبش بأحقاد وصراعات أكل عليها الزمن وأصبحت من مزابل التاريخ ومن صفحات تاريخه المؤلمة ،ولكنهم استفادوا من دروسها وعِبَرها وعرفوا كيف يتغلبون على الجراح والآلام والدماء والدموع والأحزان ، وذلك بعكس المسلمين تماما !!.
نعم لا أحد ينكر أن في تاريخنا فظائع يندى لها الجبين .. وفي تاريخنا مجازر .. وفي تاريخنا قطع رؤوس ونبش قبور .. وفي تاريخنا صراعات وحروب بينية وفظائع !! هذا كله موجود بتاريخنا .. ولكن ألا يوجد بتاريخنا غير ذلك لنبني عليه ؟.
القبح والجمال موجود بأنفسنا ، والخير والشر من صنع أيادينا ، فيمكننا أن لا نرى في تاريخنا إلا الصورة المقزّزة ويمكننا أيضا رؤية الصورة الأخرى الجميلة الجذّابة التي توحّد بيننا وتقارب بين عقولنا وأرواحنا وأنفسنا وتفكيرنا..
لقد حصلت صراعات في الإسلام على الخلافة ولكنها في جوهرها كانت خلافات سياسية ، ثم انعكست على الدين والتفسيرات الدينية وعلى العقيدة والفقه ، ونشأت بعد ذلك الفُرَق والنحل والملل والانقسامات والصراعات والخلافات التي ما زلنا ندفع ثمنها يوما بعد يوم وجيلا بعد جيل منذ ذاك الاجتماع في سقيفة بني ساعدة إثر وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحتى يومنا هذا، ونبني على تلك الصراعات ونُراكِم فوقها ، تماما كما يُراكِم عمّال القمامة الأوساخ في مكَبِّ القمامة كل يوم !!.
لماذا لا نبحث وننكش في التاريخ عن أشياء جميلة ونراكم فوقها ، بدل العكس ...؟ .
لماذا لا نتذكر أن الإمام علي بعد ستة أشهر وحينما أدرك أن الإسلام في خطر بسبب أهل الردّة ، سارع وبايع أبي بكر الصدّيق (رضي الله عنه ) كي لا يتفتّت الإسلام ويضمحِل !!.
لماذا لا نتذكر الخليفة الفاروق ( رضي الله عنه) وكان يستشير الإمام علي ، وأخذ برأيه حينما أراد رجم امرأة ولّدَت لستة أشهر ، فقال له الإمام علي (ر)أن الله تعالى قال ( وفصاله في عامين) فالحمل ستة أشهر والفصل في عامين ، فترك عمر(ر) رجمها وقال : لولا علي هلك عمر..
وللأسف هناك من لا يعترف بذلك مع أن هذا مذكور في كتب : الرياض وتفسير النيسابوري ومناقب الخوارزمي وشرح الجامع الصغير وغيرها ...فهناك دوما من لا يرغب في التقريب بين المسلمين ويُصرُّ على التمسك بكل ما يباعد بينهم !!...
لماذا لا نتذكّر أن الإمام أبي حنيفة (رضي الله عنه) ، كان مُناصرا جدا للعلويين في مذهبه السياسي ولا يرى في بني أمية حقا ولا سلطانا ، ووقف مع ثورة الإمام زيد بن علي ضد الأمويين، ومع ثورة الإمام محمد النفس الزكية ضد العباسيين ، ورفض طلبات أبي جعفر المنصور وعروضه عليه باستلام القضاء، فحبسه حتى توفي .. وهو الإمام الأعظم !!.
إقرأوا التاريخ لتتبينوا كيف أن أبي حنيفة رضي الله عنه ، وحينما اشتدّ ظلم العباسيين للعلويين(حلفاء الأمس) اتَّخذ موقفا معاديا للعباسيين تأييدا للعلويين !! أليسَ أبي حنيفة من كبار الأئمة ، لِمَ لا نقتدي به اليوم بالمحبة ونبذ الكراهية ؟؟..
ألَمْ يتدارس أبي حنيفة رضي الله عنه مع أئمة الشيعة ويزورهم في ديارهم ويأخذ عنهم ؟. ألم يعترف بفضل الإمام زيد بن علي زين العابدين والإمام جعفر الصادق الذي كان من عُمُرِهِ؟.
وأما الإمام مالك (رضي الله عنه) فقد أفتى بأحقية الإمام محمد النفس الزكية شرعا في الخلافة وهذا ما كلّفه الاعتقال من الوالي العبّاسي على المدينة وضُرِب حتى خُلِعَت كتفه!!. وإن ألقينا نظرة على كتابه ( الموطأ) ، ألا نجد كيف أنه اعتبر الاختلافات بين المسلمين اختلافات بالفروع ووصفها أنها رحمة للأمة ، وبيَّن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اختلفوا في الفروع ، وتفرّقوا في البُلدان وكلّ عَدّ نفسه مُصيبا ، وأوضح أن اختلافاتهم رحمة للأمة ، وكلِّ يتّبع ما يصح عنده ، وكلِّ على هدى ، وكل يريد الله !!.
لم يشأ الإمام مالك أن يجمع الناس كلهم على (الموطأ) ولو أراد لتمكن من ذلك وحَمَلَ الناس كلهم على مذهبه .. وهذه كانت رغبة هارون الرشيد !!. فماذا يعني ذلك ؟ أليس درسا عظيما من الإمام مالك لنا جميعا على أن لا نتعصبّ لمذهب دون مذهب وأن يحترم الجميع مذاهب بعض وأن هذه الاختلافات رحمة ؟؟ فلماذا حوّلوها إلى نقمة ؟؟.
بينماالإمام الشافعي رضي الله عنه ، فقد (اتّهموه) بالتشيُّع وحاكوا له المؤامرات في قصر هارون الرشيد حتى بعث بطلبهِ وساقوه مع تسعة من العلويين ولولا ذكائه وسرعة بديهته لفعل هارون الرشيد به ما فعله بالتسعة الآخرين !!. إنه ذات التاريخ اليوم حينما ينشر أحد الدواعش على اليوتيوب أن (أهل غزّة شيعة لا يجوز نصرتهم ضد الصهيونية) !!
وأعتقد أنه مُستندا إلى أنهم من أتباع الإمام الشافعي المتأثر بفقه الإمام جعفر الصادق .. (والمُتّهم) في زمن هارون الرشيد بالتشيُّع .. وهارون الرشيد وغيره من الخلفاء العباسيين (وبعضهم كانوا من المعتزلة الذين يعتبرون القرآن مخلوق وليس مُنزَل) هؤلاء كانوا يحاربون الأئمة ليس من أجل الدين وخوفا عليه وإنما خوفا منهم على سلطتهم السياسية ... فمَن لم يقرأ عن جواري هارون الرشيد وطبيعة حياته الباذخة !!..
بينما الإمام أحمد بن حنبل(رضي الله عنه) فكان يردُّ على من يخالف خلافة الإمام علي (رضي الله عنه)،ويؤكّد شرعيتها ويقول :( من لم يُثبِت الإمامة لعلي فهو أضلُّ من الحمار) ..وقد روَى فضائل الإمام علي في الصّحاح ، وقال ( وما لأحد بالأسانيد الصّحاح مثل ما لعلي ) ..ونهى عن الخروج بالسيف ...
أليسَ هؤلاء الأئمة وقبلهم الخلفاء هم من أهل السلف الصالح ؟ إذا لماذا لا نقتدي بمحبتهم لبعض واحترامهم لبعض وتعاونهم مع بعض ؟؟..
ألم يحترم الأئمة الأربعة الإمام جعفر الصادق ؟؟. أليسَ الإمام جعفر الصادق صاحب المدرسة الفقهية للشيعة الإمامية ، وإمام كل الأئمّة ، إن جاز التعبير ؟.
لماذا لا نتذكر أهل الورع والتقوى والزهد والمحبة في تاريخنا الإسلامي : أبو حامد الغزالي ، محيي الدين بن عربي، جلال الدين الرومي ..الخ..هل أجمل من قول محيي الدين بن عربي :
لقد صار قلبي قابلا كُلَّ صورةِ فمرعَى لغُزلانِ ، وديرٌ لرُهبان
وبيتٌ لأوثان ،وكعبةُ طائفِ وألواحُ توراةِ ومُصحف قرآن
أدينُ بدين الحبِّ أنَّى توجّهتْ ركائبه ،فالحب ديني وإيماني .....
العبرة في الإنسان أيها الناس هي حقيقته الروحية ودرجة قرابته من الله ، وعدم التفرقة بين جنس وآخر ، أو دين ومذهب وطائفة ، فمنبع الأديان واحد ،والطرق إلى الله لا تُحصى ، وكل الأديان والمذاهب بالنتيجة هي طرق توصل بالنهاية لذات الغاية ، وهي( الله)... فبأي حق يعتبر البعض أنفسهم أوصياء الله على الأرض ويقطعون رؤوس العباد لأنها تخالفهم الرأي والعقيدة ؟. على ماذا يستندون إلا على روائح الدم في لحظات التاريخ الوسخ والنتن ؟؟. لماذا يعكسون الإسلام أنه بعيد عن الروحانيات لا يعني إلا بالملذّات وأجساد النساء وقطع رؤوس الرجال !!.
من أين جاءت ثقافة التكفير والقتل ؟. أليسَ هذا فكر الخوارج ؟. وهل في عهد الخلفاء عليهم رضوان الله وحتى الأئمة من بعدهم في القرنين الثاني والثالث الهجري ، هل هناك من كفّرَ أحد سوى الخوارج الذين كفّرَوا الجميع؟. أليس ذات الفكر الذي يمارسه التكفيريون اليوم بتكفير الجميع ؟.. بل لم يرتكب الخوارج الفظائع والشناعات التي يرتكبها التكفيريون اليوم !! .ماذا كان تبقى من الإسلام لو انتصر خوارج (صفيِّن) ؟ ماذا لو لم يهزمهم الإمام علي في (النهروان)؟ وماذا لو انتصر التكفيريون اليوم؟ ماذا سيتبقى من الإسلام ؟.
المسئولية الدينية والأخلاقية والتاريخية تقتضي من الجميع الابتعاد عن أوساخ التاريخ وطمرها في أعماق الأوحال حتى لا ينفذ منها أثر من رائحة ، واستنشاق نسمات التاريخ الزكية المضيئة الجميلة التي جسّدَها سلوك الصحابة والأئمة في أوقات كثيرة مع بعضهم البعض .. كفى نبشا في مزابل التاريخ والبناء عليها، ابحثوا عمّا يُقرِّب وليس عمّا يُفرِّق .
كفى ..فحتى لو كان التكفيريين والمتطرفين يعتقدون أنهم يعملون لخدمة الإسلام ( والأمر ليس كذلك) فألمْ يسمعوا قول رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم:(بشِّروا ولا تنفِّروا ويسِّروا ولا تُعسِّروا).. وألمْ يقرئوا قول الله تعالى في سورة آل عمران:( لو كنتَ فظّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك ..) صدق الله العظيم ... فأين هم من هذا القول ؟؟..
https://www.facebook.com/you.write.syrianewss