*حينما اندلعت الأحداث في سورية في آذار 2011 وكانت قد سبقتها أحداث تونس ومصر وليبيا ، توقع الكثيرون من العاملين بالحقل السياسي والإعلامي والدبلوماسي ، لاسيما بعد انهيار منظومة حلف وارسو وتفكك الإتحاد السوفييتي ، وانتقال كل ذاك الجزء الكبير والمهم من العالم نحو الديمقراطية والتعددية،، توقّعوا أن المنطقة العربية وبلدانها ليست بمنأى عمّا حصل في تلك البُلدان ، وأنها جميعا أمام استحقاق تاريخي كبير على غرار ما حصل في شرق أوروبا وفي جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة التي انتقلت جميعا نحو التعددية والديمقراطية بشكلٍ حضاريٍ وسلمي ، إذا ما استثنينا ما حصلَ في رومانيا!!.
*كان من الواضح أيضا أن سورية هي أمام هذا
الاستحقاق التاريخي الكبير، وأن كل ما كان يجري بداخلها كان يشير إلى أنها ستذهب
بهذا الاتجاه عاجلا أم آجلا ، وكانت الأمور مُغطّاة بقشّة ، والحال كان أشبه بحالِ
الحليب وهو يغلي في طنجرةٍ فوق النار تحت سطحِ طبقةٍ كثيفة من الزبَد الساكن لا
تجعلك ترى ذاك الغليان ما لَمْ تُزيحَ الزبد قليلا ،، وحينها ترى حالة الحليب على
حقيقته وكيف هو يغلي !!.
*في سورية كانت تبدو الأمور ساكنة وهادئة ولكن خلف هذا السكون كان هناك غليانٌ منذ
سنين قبل اندفاع الناس للشوارع ، وللأسف لم يكن يؤخذ كل ذلك على محمل الجد ، نتيجة
الغرور والاستخفاف والبُعد عن عامّة الناس ، والاعتقاد أن طرح الشعارات البرّاقة من
مُقاومة ومُمانعة وعِداء لإسرائيل والغيرة العروبية والقومية ،، أن كل ذلك قد
يُشكِّل عاملَ ضمانٍ بأن لا يحصل في سورية ما حصل في تونس ومصر !!. بل مضتْ إحدى
المسئولات في الدولة لكتابة مقالٍ حينئذٍ تعزو فيه كل الحراكات في تونس ومصر إلى
وقوف أنظمة تلك البُلدان مع كامب دافيد ، عِلما بأننا لم نرى شعارا واحدا في
الشوارع يتطرّق لكامب دافيد وإنما كل الشعارات كانت تطالب بالتغيير والتعددية
والتحول نحو الديمقراطية ووضح نهاية لزمن الحُكم الواحد والمُطلق وما نجمَ عنه من
فساد وإفساد وفقر وبطالة وثراء غير مشروع ووأد للحريات والاستئثار بمقدرات البلاد
والعباد وعقليات مزارع وإقطاعيات وخصخصة المناصب والمراكز بالدولة لأهل الدعم
والمحسوبيات والواسطات ، واحتكار الثروات ووووو !!.
وما ورد في ذاك المقال كان ينمُّ عن ضعف كبير في
الرؤية والتحليل وبُعدٌ عن الواقع الذي تعيشه تلك المجتمعات ، كما هو جهلٌ بتوجهات
الرأي العام وبمشاغل الناس وتطلعاتها ومشاعرها وتفكيرها وطموحاتها !! وهذا إن نمَّ
عن شيء فإنما ينمُّ عن مدى الابتعاد عن تفكير الشارع وهمومه ومدى البُعد بين
المسئولين وبين جماهير البشر !!.
* دَعَونا الله أن تجتاز سورية هذا الاستحقاق بأقل الخسائر ، كما حصل في تونس ، أو
على الأقل في مصر ،، ولكن دعواتنا وأمنياتنا لسوريتنا لم تتحقق ووقعتْ الواقعة ،
ونَحَتْ سورية باتجاه العنف والحرب والقتل والدماء والدمار ، حتى وصلنا إلى هذا
الوضع المأساوي الذي لم يعد يملك به السوريين أي قرار يتعلق ببلدهم ومستقبله ،
والقوى الإقليمية والدولية هي من تصنع اليوم مستقبل سورية ، بعد أن أصبحتْ سماؤها
ملعبا لكل طائراتهم ، والسوريون متفرجون ليس إلا !!.
والمهزلة أنه ما زال يخرج عليك وزير "رشيق"
ليحدثك برشاقةٍ عن السيادة واستقلالية القرار وضرورة التنسيق مع الدولة لِمَن يريد
مكافحة الإرهاب !! يعني على طائراتهم أن تحصل على تأشيرة طيران دبلوماسية قبل أن
تنتهك الأجواء السورية !! ما هذه النكتة السمجة!!. لا أدري كيف يُوجد هكذا أشخاص في
هكذا مناصب وهم بهذا الحجم من الجهل!. لا غرابة ما حصل ويحصل من فشل سياسي
ودبلوماسي طالما أن طبّاخ الدبلوماسية ينطبق عليه المثل الشعبي : إذا كان طباخكم
جعيفص شبّعتونا مرقة !!.
*لقد كتبتُ في مقالات عديدة ، ومنشورة ، منذ سنوات أنه لا خيار أمام سورية إلا
الخيار الديمقراطي التعددي الذي يعتمد العلمانية والتداول على السلطة وحرية الأحزاب
والإعلام والنقابات ، والسير على النهج الذي سار عليه الغرب بعد حروب ودماء غرقت
بها بلدانه وشعوبه عبر التاريخ ، ولم يُنقذه منها إلا خيار الديمقراطية العلمانية
الليبرالية التعددية التداولية !!.. وإن كانت تجربة الغرب صعبة جدا لهضمها على
البعض فها هي تجربة تركيا المُسلِمة ذات التعدُّد القومي والعرقي والديني والمذهبي
،، فلا يمكن الاستهانة بها ، وهي تجربة رائدة في مجتمعٍ إسلامي ومتنوع ، وهنيئا
للأتراك عليها!!.
* الديمقراطية العلمانية الليبرالية التداولية هي الضمان الوحيد لكافة مكونات الشعب
السوري وأولها ما يطلقون عليه (الأقليات) !! لأنه في ظل هكذا نظام ونهج سياسي فيكون
الجميع متساوين كسوريين دونما أي تمييز على أساس ديني ومذهبي وقومي وعرقي وذكوري أم
أنثوي وأقليات وأكثريات ...الخ .. وبالتالي فلا يحتاج أحدٌ لحماية حكومته بالقوة
المسلحة ، إذ تكون محمية طبيعيا بالدستور والنظام السياسي والبرلمان والمؤسسات
والشعب الذي يمتلك إرادته ويختار دوما من يشاء بملء إرادته وقراره وبحرية كاملة !!.
وعلى الأقل لا نبقى نرى لزمنٍ طويل مسئولٍ أو
وزيرٍ كبير الحجم ، صغير العقل والسلوك ، لا يصلح إلا بائع مازوت ، وقد أصبح في أهم
المواقع بالدولة أو في المزرعة التي يُطلقون عليها تجاوزا اسم دولة ، فوجدها فرصته
لتفريغِ سموم قلبه وقيح دماغه ضد الآخرين منطلقا من لؤمٍ وكيدٍ وحقدٍ غير مسبوق ،
وعصبية قميئة لأهله وأقاربه وأبناء مدينته ، وسط مناخٍ كله مُلوّثٍ بالمحاصصات
وتبادل المصالح وفي ظل غيابِ كل شيء اسمه معايير دولة أو مؤسسات ذات مصداقية
واحترام !!.
*الكلُّ يعترف أن سورية بلد متعدد الطوائف والمذاهب والأعراق والأديان ، ولكن
بموازاة ذلك على الجميع أن يعترف أيضا أن هذا البلد يجب أن يكون أيضا متعدد الأحزاب
والاتجاهات السياسية ، ويعترف بحقِّ كلٍ منها أن ينشط ويعمل بحرية كاملة تحت سقف
الوطن ويسعى للوصول إلى الأغلبية البرلمانية وإلى الرئاسة ، من خلال برنامجٍ خاصٍّ
به ، ومبروك عليه إن اقتنع الشعب ببرنامجه أكثر ومنحهُ الثقة !..ولِمَ لا ؟!. هل
الأتراك أكثر منا وعيا وتحضُّرا ووطنية وشعورا بالمسؤولية ؟!.
*لو سِرنا كسوريين في هذا الدرب منذ بداية الطريق هل كنا ننتظر الدول الإقليمية
والدولية اليوم لتضع لنا خارطة الطريق للحل السلمي ووضع حدٍّ لهذه الحرب المجنونة
التي أودت بحياة مئات آلاف شباب الوطن من طرفي الصراع ، وما بينهما مِمن لا ناقة
لهم ولا جمَلْ ؟!. عدا عن ملايين آخرين من يتامى وأرامل وثكالى ونازحين ومهاجرين
ومفقودين ووو ، بعد أن تحوّلت غالبية المناطق السورية إلى أنقاض !؟.
*لقد أوضحتُ في مقالات عديدة بالماضي أن الحل في سورية يحتاج إلى مؤتمرٍ دولي تشارك
فيه كل الأطراف اللاعبة والمؤثرة على الساحة السورية ، الإقليمية والدولية ، وبحضور
وفد الحكومة الرسمي الذي يمتلك النفوذ والصلاحيات (وليس من كنا نراهم من موظفين)
ووفد المعارضة ، إضافة لكافة ممثلي المجموعات المسلحة التي تؤمن بالحل السلمي ،
وهؤلاء جميعا يتفقون على خارطة طريق ، ويتم تنفيذها ومتابعتها من قبل الأمم المتحدة
، كما حصل في كمبوديا !!. وها هم اليوم يخْطُون في هذا الاتجاه من فيينا ، ولا يضحكُ
أكثر من العبارات التي ما زال يرددها أحدهم من ذوي الشحم واللحم المتهدّل بكثافة ،
وقد تجاوزتها كل قناعات الدول الناشطة والفاعلة في الشأن السوري ، وكأنه يُغرِّد
خارج الزمن !!.
*العديدون انتقدوا رؤيتي ونظرتي السابقة ، معتقدين أن الحل العسكري هو وحدهُ الصحيح
، ولا ألومهم لأن مستوى وعيهم لا يسمح لهم بإدراك أبعاد هذه الحرب وتشعباتها وأنه
لن يُسمَح لأحدٍ فيها بالانتصار وبالحسم العسكري ، وها هو الروسي نفسه مقتنعا أنه
لا يوجد حسم عسكري ، ولا حتى الإيراني !!.
*لقد خرج مسئولٌ ليقول في نيويورك أن ما عجِزوا عن أخذه بالحرب فلن يأخذوه بالسياسة
أو المفاوضات !! وكلامِه يوحي وكأن الحكومة تسيطر على كل الأراضي السورية وتبسط
سيادتها فوق كل شبرٍ في سورية ، متناسيا أن الطرف الآخر يسيطر على مساحات شاسعة
تفوق ما تسيطر عليه الحكومة وأن ذاك الطرف لن يعطي الحكومة أيضا بالسياسة ما عجزت
عن أخذه بالحرب .. أي لن يتخلى عن سيطرته على تلك المناطق لصالح الحكومة هكذا
ببساطة بعد أن استولى عليها بالحرب والدماء .. فما الحل إذا ؟؟ هل تبقى سورية
مُقسّمة كأمرٍ واقعٍ إلى ما شاء الله ويترسّخ هذا التقسيم حتى يصبح وكأن هناك
دولتين كما حصل في كوريا ، أم يجب تقديم تنازلات من الجميع لإنقاذ ما تبقى من الوطن
ومن أرواح أبنائه ؟!.
*ما صدَرَ في أعقاب اجتماع فيينا يوم الجمعة 30 تشرين أول ، وبغياب كافة الأطراف
السورية ، يوضِّح أن سورية هي اليوم وليمة على طاولة الدول الإقليمية والدولية وكلٍّ
منها يسعى إلى الاستئثار بأكبر ما يستطيع من هذه الوليمة ليُثبِّت نفوذه وأقدامه في
المستقبل ،، كما هو حاصلُ في لبنان !!.. باتوا ينظرون إلى سورية على أنها أرضٌ مشاعٌ
وكل جهة تأتي وتضع اليد على قسمٍ منها كي لا تخرج من المولِدْ بلا حمُّصْ ، كما
يقول المثال الشعبي !!.
*ولكن حتى لا ننظر لكل شيء بنظرية المؤامرة وسوء الظن ، فإن الإعلان الذي قرأهُ
وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ليلة الجمعة 30/10 إلى جانب وزير الخارجية الروسي
لافروف ، والمبعوث الدولي إلى سورية دي مستورا ، فإنه إعلانٌ مُشجِع ويدعو إلى
التفاؤل ، ويخدم أصحاب التوجهات العَلمانية بشكلٍ واضحٍ لا لُبسَ فيه !!. وأعتقد أن
أصحاب التوجهات الدينية المنغلقة سوف لن تقبل بمصطلح (العَلمانية) ، بل منها من
غضِبَ جدا وخرج يقول أن تطبيق العلمانية في سورية سوف يؤدي إلى حرب أهلية ، وللأسف
الشديد فهي تجهل معنى العَلمانية وتتقصّد تفسيرها بشكلٍ مُضلِّلٍ وغير صحيح ،، وإن
الابتعاد عن العلمانية لصالح الآيديولوجيات الدينية هو من قد يقود سورية للحرب
الأهلية وليس العكس !!..
*ما وردَ في الإعلان (الذي لم يرق إلى مستوى بيان) كان معقولا ومنطقيا (على الرغم
من وجود مُسلَمات لا يختلف عليها أحدٌ)، فالسوريين بمفردهم لن يكونوا قادرين على أي
حلٍّ ما لم يكُن ذلك تحت رعاية وإشراف ومساهمة ومساعدة الأمم المتحدّة ، وهذه كانت
قناعتي منذ زمنٍ بَعْدَ هذه الدماء والدمار ، وها تلك تجربة كمبوديا ماثلة أمامنا
!!..
*ما يأمله السوريون اليوم هو الإسراع في الاتفاق على الأمور التي ما زالت خلافية ،
وفي ترتيبات وقف إطلاق النار الذي تحدّثَ عنه إعلان فيينا بالتوازي مع العملية
السياسية الجديدة ، وأن لا يطول هذا الزمن كثيرا ، لأن كل يوم ، بل كل ساعة تعني
مزيدا من الدماء ، وموت المزيد من الشباب ، وترميل المزيد من النساء وتيتيم المزيد
من الأطفال !..
* كمْ تألّمتُ وحزنتُ مساء الجمعة 30/10 حينما ذهبتُ لتعزية أحد الأقارب باستشهاد
صهرهِ ، وبينما أنا جالسٌ جاءهُ نبأ استشهاد أعزِّ أصدقائه تاركا خلفهُ طفلين
وطفلتين وطلبَ منه المُتّصل إبلاغ أهل الشهيد ، لمعرفتهِ بهم ، وكي يحفروا له قبرا
قبل وصول الجثمان!!.. وجلسَ لبعض الوقت وهو يُفكِّر كيف سينقل الخبر إلى زوجة
الشهيد التي كانت تقطف الزيتون في القرية ، وإلى أخوته ، وأخذ يتّصلُ ببعض الأصدقاء
ليستشيرهم في الأمر !!.
* نعم من يكتوي بالنار ليس كمن يتدفّأ عليها !. وهناك كثيرون يتدفّئون بينما غيرهم
يكتوون ، وأولئك هم المزايدون المنافقون المستفيدون ، الآكلين للبيضة وقشرتها دون
أن يُقدِّم واحدهم نقطة دم للوطن ويوزعون وطنيات على الناس من خلف مكاتبهم الفاخرة
، وهم الأقل وطنية ،، بل فوق ذلك يحاربون ذوي الشهداء بكل لؤمٍ وحقدٍ وخسّةٍ وحقارة
!!. أمثال هؤلاء لا نريد أن نراهم في سورية المستقبل ولا أن نسمع بأسمائهم !! هؤلاء
كَبُرَ حجمُ شحمهم ولحمهم واندلقت كروشِهم وتضخّمت رِقابِهم على حسابِ عقولهم ،،
ولم يكونوا في أي وقت سوى أشباه رجال ، وأكبر دليل صِغرُ سلوكِهم وتعاملِهم
وممارساتِهم في المؤسسات التي يجثمون فوق صدورها !!..
https://www.facebook.com/you.write.syrianews