عاد من المدرسة وجسمه يرتعش من البرد ..... كنت أنتظره ..أو بالأحرى أنتظر أي طفل مثله
سألني أين بقايا أهلي ؟؟أين بيتي؟؟وأين حارتي؟؟؟؟
خجلة أنا منه ..بماذا أجيبه لا أعرف وبماذا أبرر ؟ ليس لدي جواب مقنع لطفل مثله
فهذا طفل ليس ككل الأطفال .. ماتت براءته وماتت طفولته بوقت مبكر ... ولد في عينيه حقد ومات خوف الاطفال فيه ..في صوته لوم وفي مشيته شك بكل من خلفه خوفا من الطعنات التي تعود عليها منذ كان في بطن أمه
في داخله إنسان راشد كبير هرم ..شاب قلبه وهو ينتظر ... ينتظرنا ... يتأمل فينا ...
بعد أن اعتاد على الهدوء البارد في غزة .. على البرد ... وانقطاع الكهرباء .. اعتاد النوم على العتمة والاستيقاظ على الأمل .
وجهت الكاميرا إليه وبدأت ألتقط الصور وأركز على عينيه ... أردت أن أرسل عينيه إلى كل من أعمت الخيانة بصره وبصيرته . التفت إلي والغضب يملأ ملامحه وسألني : لما تصوريني
ارتبكت من غضبه وقلت : ربما لأنك أكثر منظر مؤثر في غزة
فأجابني: فقدت غزة أهلها من زمن بعيد واعتادت على الخيانة ... واليوم أراها تصبح ثكلى ألف مرة في اليوم ولا تتلفظ إلا بالفاتحة على أرواح أبنائها الذين يغادرونها كلما أشرق الأمل فيها ليثبتوا لها أنها تنتظر سرابا .. فتفتح عزاء وتغلق عزاء وتمضي بقية يأسها في عزاء .
تمسح دموعاً لا تتوقف عن السيلان ...وأرى المتفرجين عليها بدون حراك يبتلعون ملح دموعها على موائدهم الفاخرة
هل تستطيع عدستك أن تخترق الظلام مساء وتدخل إلى أحلامنا ... وقتها يا سيدتي سترين كم من الحرائق المشتعلة في قلوبنا تطفأ .. وكم من المساعدات تأتينا بكل الوسائل وكم من السيارات المحملة بالأغذية والأدوية تتسابق في طريقها إلينا وتحتاج لشرطي مرور لتنظيم ازدحامها دون أن تخشى المصادرة والعرقلة ممن خلقوا تلك العتمة في ليالينا .
بيأس وبعيون أغشاها الدمع وبغصة منعتني من الكلام اقتربت منه لأمسح وجهه فلم أتلمس إلا علامات الهم .. وبصعوبة قلت له : هلا أتيت معي يا صغيري فلم يبق مكان لتنام فيه بعد اليوم .
أجابني بصوت غائب دون أن يلتفت إلي .. خذيني في كاميرتك وخذي معك كل أطفال غزة .. فهناك الكثير من الأطفال في غزة مثلي وبإمكان كاميرتك الفاخرة أن تستوعب صورنا الملونة باللون الأحمر ولكن لا أرض غير أرض غزة تتسع لطفولتنا وأحلامنا ...
فهنيئا لكم بصورنا وبحقدنا ... وهنيئا للعالم بالحرائق التي سنخلفها إن متنا ذات شتاء ودفننا بقبور من جليد فالنار ستحرق من باعنا يوما ..
اذهبي وخذي مادتك الدسمة وانشريها في الجرائد ولكن اطبعيها بحبر لا يزول عندما تقلب صفحتنا فنصبح مجرد عناوين .
أما أنا فأفضل النوم في حطام بيتنا وسأغمض عيني لتكمل لي أمي حكاية غزة التي بدأت تحكيها قبل أن يخطف الموت حنانها وسأذهب إلى إخوتي حيث ينعمون بالدفء الذي أحسوا به في أحلامهم فقط
عودي في الانفجار القادم ... لن تجديني سأكون بين أهلي حيث لا يهود .. لا متواطئين ولكنك ستجدين حطاما جديدا وأيتام غيري يدفعون البرد عنهم بأشلاء أهلهم وينتظرون ... ينتظرون ....ينتظرون أملاً لم ينضج بعد ووعداً مقيداً بالسلاسل لن يتحقق .