ترن ترن .. ترن ترن ترن .. ترن ترن ترن ترن .........
رنين المنبه هذا ! .. استيقظت شذى غاضبة قاطعة عهداً على نفسها بتغيير النغمة المزعجة تلك .. سوف تضع أغنية لفيروز أو ما شابه , ثم تذكرت أنها لن تستيقظ سوى بهذه الطريقة .. إن صوت فيروز و الألحان الأخرى تغريها بمواصلة النوم دوماً ..
نهضت بتثاقل و مشت تجاه المرآة .. تحب دوماً بدء يومها بمطالعة وجهها .. اليوم فقط خطر لها هذا الخاطر ربما أيامي منحوسة وسيئة لأني أبدأها بالنظر إلى وجهي هعهعهع " , ابتسامة باهتة لاحت على وجهها ..
" لكن فلأكن منصفة .. لو أن أيامي كانت بنصف جمال وجهي إذن لغدت أيامي نهارات مشرقة دوماً ! " .. هي اليوم في الثلاثين .. حسناء قليلة الحظ في الثلاثين على حد قولها .. لا تعرف متى بدأ التذمر بالتحول عندها إلى هواية يومية , تذمر من النوع الذي لا يسمعه الآخرين .. أو بالأحرى هي لا تدع أحداً بمعرفته ..
كل يوم الروتين نفسه .. الاستيقاظ في العاشرة والنصف .. إشعال الراديو .. ترتيب الغرفة .. وضع الإفطار لأمها العجوز .. ثم اللحاق بالباص والذهاب إلى صالون تصفيف الشعر ( مكان عملها العتيد ) .. ثم العودة في الثامنة لتجلس أمام التلفاز مع أمها العجوز بعد الانتهاء من ترتيب المنزل بالطبع .. فالسهر حتى الثانية صباحاً بالقراءة و النوم ..
لماذا لم تدرس ؟؟! لأنها حسناء قليلة الحظ و خاوية العقل كما تقول هي عن نفسها !
اليوم بالذات بلغ المؤشر في عدّاد الإحباط حده الحرج .. شعور لزج كريه يجثم على روحها .. و عندما كانت واقفة على موقف الباص أحست بأن دمعة وقحة تحاول الإفلات من عينها و تصر على ذلك ! .. هي لم تعد تحب رؤية المدام مودي ( اسمها ميادة لكنها تنظر إليك بازدراء إذا تجرأت بكل وقاحة و ناديتها بذلك ! ) لم تعد تحب رؤية النساء المتحذلقات المتعاليات بعد اليوم .. نفس الأحاديث و نفس السخافات تتكرر يومياً .. لكن .. ماذا تعرف " غير هذه الصنعة ؟ "
" أنا الغبية كان يجب أن أكمل دراستي " .. قالت هذا و لفحة ثلجية غمرت و جهها و جعلت روحها تنكمش على نفسها أكثر ..
صعدت إلى الباص و سارعت إلى أخذ مكانها في المقعد ذاته .. المقعد الثالث على اليمين .. هي تحب هذا المقعد فعدا عن كونها تجلس في هذا المكان بالذات طوال 10 سنوات إلا أنه مثالي حقاً .. فهو يتيح لها مراقبة الشارع عبر النافذة و بنفس الوقت مراقبة الصاعدين إلى الباص .. تشعر بمتعة حقيقية في محاولة سبر أغوار كل شخص و مراقبة حركاته و طريقة لباسه .. كم من مرة اكتشفت أشخاصاً يرتدون قمصانهم "عالمقلوب " فكتمت ضحكة لذلك , و كم من مرة رأت تعبير الغباء ذاك عندما يكتشف الصاعد أنه لا يحمل نقوداً .. متعة حقيقية !
اليوم هي منطوية على نفسها لذلك اكتفت بإسناد رأسها إلى النافذة و مراقبة الطريق .. أشخاص يروحون و يجيئون .. شاب و فتاة يضحكان في هذا الجو الثلجي و كأن حالهما يقول "فلتزأر العاصفة .. نحن معاً و نمتلك العالم ! " ..
" أين يذهب كل الشباب الوسيمين ؟ دائماً هناك فتاة أخرى .. فتاة ذكية قد سبقتك أيتها البلهاء ! "
كانت مقتنعة بأن في أيامنا الحالية الفتاة هي من تجد الشاب و ليس العكس .. بماذا تفسر كونها وحيدة إذن ؟
" عندما كان هناك سامي أظهرت براعتك في بيان جبنك و سلبيتك .. انتظرته ليعترف لك بحبه و نسيتي بأنك أوحيتي إليه بأنك لا ترينه أصلاً ! "
تقول أمها العجوز : كل صديقاتك قد تزوجن فماذا ينقصك أنت ؟ فتنظر إلى أمها بحيرة و تصمت .. ربما لأن حظها قليل .. ربما هكذا فقط ..
تقول صديقتها مرام و هي تهدهد طفلتها : أنتِ يا صديقتي مغرورة .. مغرورة و تحسبين نفسك .. ما كان اسمها ؟ .. نعم .. تحسبين نفسك ماري انطوايت و العرسان على باب القصر ..
فتجيبها شذى : لكن ماري انطوانيت لم تكن جميلة .. هذا عدا عن أنها كانت متزوجة من لويس الرابع عشر و كانت تذهب إلى قصر فرساي و أ .. فتقاطعها مرام بأعين متسعة و قد وقفت عن هدهدة طفلتها : مغرورة و متحذلقة أيضاً ! .. سبحان الله !
مستوى الكبرياء لديها أكثر من اللازم , هي تعرف ذلك .. أو هو أكثر من اللازم بالنسبة لفتيات اليوم ؟! .. ليتها تدري ..
ها قد وصل الباص إلى وجهته .. تفرق الجالسون كلٌ إلى وجهته أيضاً .. لا أحد يخطر بباله أن يتوقف للحظة و يستمع إلى خواطر "سندريلا " الحزينة هذه و يحاول مساعدتها .. نهضت بتثاقل أيضاً لتنزل .. سيكون عليها أن تقطع الشارع ذاك و تدخل من المفرق الثاني لتصل إلى صالون "مودي مودا فور هير ستايل
" ه وذا يوم روتيني آخر يا شذى .. سيمضي كما قبله فلا داعي للإسراع أرجوك ِ " .. شعاع شمس قد بدد الغيوم قليلاً و سقط على وجهها .. سقطت حقيبتها و انحنت لتلتقطها فرأت أنها قد تلوثت بالطين .. ضحكة طفل عذبة جعلتها تلتفت إليها .. رأت طفلاً قد تلوث فمه و أنفه بالشوكولا يشير إليها ضاحكاً ..
" أنا حقيبتي ملوثة بالطين , و أنت ملوث بالشوكولا .. نحن متعادلان إذن " .. التهم الطفل قضمة أخرى من قطعة الكاتو و قال لها و هو يلهث من فرط الانفعال : أضحك على "جاكيتك " الممزق !
تحسست ظهر "الجاكيت " الجلد الأنيق و استطاعت لمس الجلد الممزق .. لابد أن مسماراً في مسند كرسيها المفضل قد أكمل النحس اليوم ! ..
تخيلت وجه مودي المتقلص و هي ترمق جاكيتها الممزق و حقيبتها الملوثة بالطين فابتسمت ساخرة .. نظرت إلى الطفل لترى يده الممدودة ببقايا الكاتو : هذه لك .. كي لا تبكي ..
اتسعت ابتسامتها أكثر لتعلن عن ضحكة .. و قرصت التفاحتين الحمراوين على خدي الطفل معابثة .. خلعت "الجاكيت" و وضعته على يدها .. و في اليد الأخرى حملت حقيبتها الملوثة بالطين .. لن يكون هناك مودي مودا اليوم .. و ابتعدت بخطوات راقصة سعيدة تحت أشعة الشمس ..
هي حرة و بصحة جيدة و تمشي في الشمس .. يكفيها هذا ! ..