من الغريب كيف أن مكالمة هاتفية قد تجعلك تتذكر حياة بأكملها .. أحاديث و ضحكات و أشخاص قد مروا في حياتك كنسمة صيفية .. استمتعت بها للحظات ثم لم تعد تذكر أثرها المحبب الذي تركته ..
كانت أم أمينة هي نسمتي الصيفية .. لا تعرفون أم أمينة ؟! .. لقد فاتكم الكثير إذن !
أم أمينة هي مدبرة المنزل التي تأتي لمساعدة أمي بأعمال "التعزيل إياها " .. التعزيل قبل رمضان و قبل العيد و قبل العطلة الصيفية و بعد انتهاء العطلة .. إلخ ..
كانت من أولئك الأشخاص الذين يرغمونك على ملاحظتهم .. ربما يعود الأمر إلى هالات معينة أو ما يسمى بالكاريزما و ما إلى هنالك .. ما أعرفه أن أم أمينة لم تكن كغيرها من مدبرات المنازل اللواتي يضعن المنديل الملون على رؤوسهن و يبدأن بالتنظيف و علامات الأسى و التعذيب تملأ وجوههن .. لا .. لم تكن هكذا .. كانت امرأة فذة حقاً بعلامات التصميم و القسوة الطيبة البادية على وجهها , و يديها المعروقتين القويتين الجديرتين بأيدي رجل لا امرأة .. متى كان أول حديث لي معها ؟ نعم .. ربما عندما زلت قدمها عن السلم و كادت أن تدق عنقها لكنها سيطرت على الأمر .. لقد صرخت بأعلى صوتها و هي تلوح بقبضتها صاعدةً ثانية : الجاذبية المقيتة ! لا يوجد ألعن و لا أكثر ظلماً و قيداً مما يسمونها الجاذبية !
أذكر وقتها أني رفعت عيني مندهشة و قلت لها : الجاذبية هي من يجعل أقدامنا ثابتة على الأرض .. و يمنعنا من الطيران كالفوتبول ! .. لوحت بيدها بعصبية و هي تنظف بيدها الأخرى : يا ابنتي أنت لا تملكين سعة التفكير التي أمتلكها و بالتالي لن تفهمي ما أعنيه .. !
و هنا بدأ الشريان الصدغي عندي ينبض بسرعة و إحدى حاجبي قد بدأ بالارتفاع : عفواً ؟ حضرتك حفيدة أينشتاين أم ماذا ؟
- أينشتاين أحمق .. لقد صاغ حقيقة بديهية على شكل نظرية فهتف له الجميع .. أنا أتحدث عن شكل الكون الذي صمم لنكون مشدودين دوماً .. هذا هو السجن الحق !
و هنا فطنت إلى حقيقة أن أم أمينة هذه تعلم شيئاً عن أينشتاين و نظريته .. و بالتالي هي مختلفة نوعاً ما ..
تتالت أحاديثنا أكثر من مرة .. و في كل مرة كانت تكشف لي جزءاً من آرائها الغريبة و المضحكة في آن .. ما كان يجذبني إلى محادثتها ليس أرؤاها فحسب , بل طريقتها الكاريكاتورية المحببة في قولها و كأنها حقائق منزلة لأنها من فم "أم أمينة" ! .. سألتها مرة : كيفا بنتك أمينة ؟ نظرت لي بعينين ناريتين و قالت : أعوذ بالله من الحمق ! هل قالوا لك أن لدي بنتاً اسمها أمينة ؟! .. ضحكت - وكنت قد اعتدت على أسلوبها الفظ في الكلام - و أجبتها : اسمك قال لي !
جففت يديها ووضعت إحداها على كتفي كمن يعظني و قالت : يا بنتي اسمعي هذه الكلمة مني و لا تنسيها : لقبي هذا هو حصانة اجتماعية من القيل و القال .. وسماً يجب أن تحمله كل من في عمري .. إن من وصلت إلى الخمسين و ليست أم فلان أو أم علتان لا تختلف كثيراً عن المخلوقات الفضائية الذين يسيل سائل أخضر من أشداقها .. هكذا أنا أم أمينة و بالتالي لست مخلوقاً فضائياً ..
- لا .. لا أعتقد ان الوضع بهذا السوء , فما ذنب التي لا تتزوج أو التي لا تنجب ؟ هذه المرأة لا ذنب لها ..
- إن كنت تلمحين إلى أن الظروف حالت دون زواجي و إنجابي لأمينة فأنت مخطئة كما هي العادة .. أنا لا زلت لا أتقبل فكرة أن يقسم المرء ذاته إلى قطع و يطالب بأن يطعمها بل - وتخيلوا هذا - أن يحرص على حمايتها و هي بعيدة عنه .. الواقع يا بنتي أن البشر مجانين .. لا أستوعب مدى الحماقة التي تدفع المرء لذلك .. أولادنا هم قطع منا .. قطع لها استقلاليتها الخاصة و حركتها الذاتية .. ربّاه من يتحمل ذلك ؟
- لكن ماذا عن غريزة الأمومة و غريزة البقاء و ..
قاطعتني و قالت : هراء ! هراااااااااء .. إن أفضل شيء نقدمه إلى أطفالنا هو ألا ننجبهم إلى هذا العالم .. هذه هي الأمومة الحقة !
قالتها بشكل قاطع لا يقبل النقاش .. و أكملت التنظيف ..
أذكر الآن تلك المحادثة التي بدأها المطر .. كنا نقف عند النافذة نراقب الهطل الكثيف و نستمع إلى صوت ارتطام الماء المحبب .. كانت تستنشق الهواء بعمق مغمضة العينين .. ثم التفت فجأة و قالت لي : قولي لي أيوجد أجمل من هذه الرائحة ؟ رائحة الحجر المبتل .. رائحة المطر ..
مططت شفتي بما معنى : ممكن ..
- هييييييه .. ستقولين لي أن رائحة العطر الفلاني أطيب .. أعرفكم يا أولاد هذا الجيل .. لقد انفسد ذوقكم تماماً , روبوتات دون مشاعر ..
- طولي بالك علي ! .. لم أقل هذا ..
- أتعرفين ؟ .. لقد فات مصانع العطور أن يصنعوا عطراً برائحة المطر .. و عطراً برائحة العشب المجزوز و آخر برائحة الخبز الطازج .. هذه روائح فريدة و جميلة و طبيعية أيضاً ..
- لا أحد يحب أن يمشي و هو يشعر بأنه فطيرة ناضجة !
لوحت بيديها بعصبية كما هي العادة و قالت : نجعله ملطف جو إذن !
ابتسمت عندما تذكرت هذا .. ابتسمت و الدموع تجعلني غير قادرة على الرؤية بوضوح .. لا مجال هنا لذكر خصالها و طريقتها المليئة بالشغف و هي تتكلم .. لقد كانت تذكرني بزوربا إلى حد ما , لطالما كنت أعتبرها المعادل الأنثوي له .. لم أقل لها ذلك لكيلا تفاجئني بأنها قد قرأته أيضاً !
قالت لي في المرة الأخيرة التي أتت فيه للعمل أنها تعيش حياتها و كأنها بطلة فيلم يتحدث عنها .. قالت بالحرف الواحد :
أنا بطلة فيلم من تلك الأفلام التي تأخذ الأوسكار .. اسمعي .. هناك موسيقا تصويرية الآن .. أعيش حياتي و أنا أسمع الموسيقا التصويرية دوماً .. هذا الفيلم الذي يتحدث عن امرأة راضية بائسة تعمل لتعيش دون أن تسأل أحد لهو فيلم جدير بأن يفوز بجائزة .. هل نهايته سعيدة ؟ لا يهم هنا .. ما يهم أنني أعشق كل دقيقة أمر بها و تمر بي ..
مسحت دموعي .. و نظرت إلى الهاتف .. الهاتف الذي حمل لي خبر موتها المفاجئ .. أرى بعين الخيال جسدها المسجى الصامت و على رأسه يقف شبحها ساخراً .. ربما كان يقول : هيييه أم أمينة .. الحياة تافهة كما كنت تقولين دوماً .. الحياة التي تقيدها جاذبية أرضية ليس حياة أصلاً .. ها قد تحررت من الجاذبية الحمقاء .. هذه هي الحياة الحقة !
ترى كيف كانت نهاية الفيلم ؟ ..