9,00 صباحاً ..
ها قد وصلت إلى الكرسي وأخيراً.. تستطيع الآن الجلوس والتقاط أنفاسها المتعبة .. وضعت الكيس البلاستيكي الذي يحوي كرات الصوف بجانبها وأخرجت بعض الحبوب من الكيس الآخر لترشها على الأرض , ها قد بدأت العصافير بالتجمع حولها .. زقزقة عصافير ونسمات خفيفة وأشعة ضوئية لطيفة تتخلل الشجرة التي تظللها .. كم الحياة جميلة ! .. لم تكن "ست نبيلة " تتخيل يوماً أن تصبح حياتها هادئة إلى هذا الحد , هي الفتاة المتمردة الثائرة دوماً على المجتمع والأسرة والحياة ذاتها تعيش الآن - في خريف عمرها - حياةً رائقة حقاً .. تتذكر بوضوح كيف خرجت يوماً - هي ابنة الخمسة عشرة ربيعاً - مع الطلاب الجامعيين ينددون بالانفصال .. تتذكر كيف كانت تجاري الأحداث العالمية وتثور مع الهيبيين وتستمع إلى موسيقاهم وهي حبيسة هواء هنا .. تتذكر مغامرة حبها ومحاولتها للهرب وتهديد أخيها بقتلها .. تتذكر كيف رفضت بكل ثقة ذاك الغني المتحذلق الذي اختاره خالها لها ليكون زوجها .. لقد عاشت حياتها كلها كما تريد هي لا كما يريد الآخرون .. تذكرت هذا كله وهي تبدأ أول "غرزة " في البلوزة الصوفية الخضراء وابتسامة رضا تعلو وجهها ..
كل يوم تستيقظ "ست نبيلة " في السادسة صباحاً .. تقوم بتنظيف البيت الذي ورثته عن أبيها ثم تعد حاجياتها لتنطلق إلى تلك الحديقة .. نفس الكرسي كل يوم ونفس كرة الصوف الخضراء تلك , لقد كانت تحب اللون الأخضر لأنه يذكرها بالسلام الذي لطالما كان قضيتها وشغلها الشاغل في مراهقتها .. لا تنسى أيضاً طعام العصافير فهم أصدقاؤها الوحيدون على حد علمها ..
تابعت الحياكة وشعرت بالضيق لأنّ وقت الظهيرة قد اقترب .. هذا يعني أنّ عليها العودة لمسكنها فرأسها العجوز لن يحتمل ضربة شمس .. كما كل يوم .. تبدأ " ست نبيلة " بتوضيب الأكياس وتغادر الكرسي متثاقلة في حدود الحادية عشرة تقريباً .. لقد مضت حوالي عشرون سنة على هذا النظام حتى غدا ذاك ناموساً من نواميس الكون , إلا أن اليوم مختلف جداً .. فالست نبيلة لا تعلم أنه اليوم الأخير في حياتها الحافلة .. لن تعلم أنهم لن يكتشفوا جثتها إلا بعد أسابيع بناءً على شكوى من جيرانها .. سيرونها وسط حشد هائل من الأوشحة والبلوزات والقفازات وكل ما يمكن تصنيعه من الصوف .. كلها ذات لون أخضر .. وأغلبها ذات مقاسات طفولية لمختلف الأعمار .. لقد كانت ست نبيلة تصنع على مدار عشرين سنة ألبسة للأسرة التي لم تمتلكها يوماً .. هكذا قالت إحدى جاراتها اللمّاحات ..
ها قد أصبح الكرسي خالياً الآن .. هذا الكرسي الذي عرفها أكثر من أي شيء آخر .. وهو وحده كان يعلم ..
--------------------------
11,40 ظهراً ..
تدافع الصبية ضاحكين يضرب بعضهم بعضاً مازحاً على الكرسي المتهالك .. كانوا أربعة .. بلباسهم الموحد ذو الألوان الزرقاء والرمادية بدوا متشابهين .. قال أشرسهم ضاحكاً : هع هع هع .. أرأيتم كيف خدعته ؟
قال أصغرهم حجماً : لم تخدعه .. هو كان يريد تلك السجائر على أية حال .. لكزه آخر وقال : خدعه أم لم يخدعه .. أدامه الله هو وسجائره التي تقدم لنا الحرية من تلك المدرسة السخيفة ..
نهض أكثرهم حركة وقال : والآن شباب إلى أين ؟ .. إلى مقهى النت أو نظل ندخن هنا ؟
قال الشرس : إلى المقهى طبعاً , لن نبقى هاهنا كالعجائز .. أليس كذلك يا وردة ؟ .. هع هع هع
ووردة هذا هو اسم التدليل لصديقهم ورد .. لقد كان محط تندرهم دائماً لاسمه الشاعري وملامحه الطفولية .. محط تندرهم ونكاتهم الفظة الخالية من الأدب في الواقع ..
اليوم هو أول يوم يهرب فيها ورد معهم .. اليوم سيصنعوا منه رجلاً كما قالوا له ..
جرّوا حقائبهم وراء ظهورهم ضاحكين مترنحين مخلّفين سحابة أرضية من الغبار لا بأس بها .. سحابة خنقت الكرسي الذي كان وحده من يعلم القصة ..
-------------------------
1,30 ظهراً ..
جرجرت سلمى طفلاها الباكيان وأجلستهما بصرامة على المقعد ..
- ماماااا .. بدي بوشااااار .. إهئ إهئ إهئ
- ماماااا .. احكي لسامي يبطل يشد شعري إهئ إهئ إهئ
- مامااااا .. بدي أروح عالمراجيح .....
- كفىىىىىىىىىىى كفى ! اخرسوا قليلاً اخرسوا عليكم اللعنة !
قالتها بكل صرامة الدنيا ونزقها .. بكل كرهها للدنيا ..
برم الأطفال شفاههم حابسين موجة بكائية وأطرقوا وجوههم إلى الأرض .. جلست سلمى تهز إحدى ساقيها بعصبية وتمسد جبهتا بإحدى يديها .. اليوم ستحسم الأمر .. نعم يجب أن تفعل هذا .. حاجيات الأطفال موضبة كلها .. الجميل في الأمر أنهم لم يكونوا في سن المدرسة بعد وبالتالي لن يكون هناك كتب ودفاتر وغيرها من الكراكيب المعتادة .. إنها محظوظة قليلاً ولا شك ..
هل هي حزينة ؟ نعم .. تكذب إن قالت لا .. لكن أخاها لم يعد يحتمل أكثر من هذا .. لم يعد يحتمل نفقاتهم , وزوجته تتأفف باستمرار .. ثم .. ثم هناك سمير الذي لمّح إلى أخيها بشأنها .. لا أحد يريد زوجة مطلقة مع أطفالها أليس كذلك ؟
بعد قليل سيأتي طليقها السابق كما اعتاد كل شهر ليرى الأطفال في الحديقة .. لكنها في هذه المرة ستسلمهم له إلى الأبد .. هو الوالد وهو من يجب أن ينفق عليهم .. ثم إنّ "الخانم " زوجته يجب أن تتعذب بصياحهم وبكائهم طوال النهار والليل .. لقد آن لها أن ترى حياتها وأخيراً .. !
ابتعد الأطفال باكين مع أبيهم وهم ينظرون إلى الخلف وصرخاتهم الدامعة تمزق نياط القلوب .. ينظرون إلى أمهم الجالسة على ذاك الكرسي الذي كان هو من يبكي في الواقع .. نهضت "الأم " بخطوات متعثرة وتركت الكرسي والأطفال والدموع !
---------------------------
4,15 عصراً..
جلست على حافة المقعد بوضعية من يريد أن يهم واقفاً في أية لحظة .. لقد كانت مضطربة جداً وخائفة .. ها قد أتى وأخيراً .. زفرت بارتياح وابتسمت .. اقترب أكثر لترى وردة حمراء في يده ..
- مساء الورد يا أجمل فتيات العالم ..
ضحكت بخجل .. لقد كانت تحب كلماته .. صوته .. وجوده .. لقد كانت ببساطة تحبه !
لم تكن تتخيل يوماً أنها هي الفتاة العاقلة المتعلمة ستقع في الحب بهذه البساطة .. بحب ذاك الشاب الذي لم يكن عليها أن تحبه لو فكرت بعقل .. لقد كان مراوغاً جداً .. حلو الكلام جداً .. ذئباً جداً .. وهي تعلم ذلك , لكنها ياللغرابة تحبه !
ألهذا يقولون أن النساء بنصف عقل ؟ .. هكذا فكرت يوماً .. هي تعلم أنه وغد وأنه ربما لا يحبها .. هي تعلم أنّ كلماته هذه قد رددها على العشرات غيرها .. هي تعلم أن لقاءهما في الحديقة مبتذلاً جداً وأنه لو كان يحترم نفسه قليلاً أو يحترمها لطلب لقاءها في مطعم مثلاً أو أية كافيه صغيرة على الأقل .. هي لن تطلب شيئاً أصلاً وهو يعلم ذلك .. لكنها .. لكنها .. لكنها تغفر له كل ذلك عند أول كلمة مديح يلقيها على مسامعها وعند أول نظرة حب تتبدى في عينيه ..
ها قد بدأت الشمس بالمغيب وصار عليها أن تغادر قبل أن يبدأ أبوها بالتساؤل .. قال لها : لحظة .. أريد أن نشهد هذا الغروب الرائع معاً ..
تمهلت وعادت إلى الجلوس .. نظر في عينيها وقال : كم أحب هذا اللون المتوهج الذي تتركه الشمس المحتضرة في عينيك العسليتين .. كم أحب أن ينتهي يومي معك ولك .. أن أنتهي لأجلك .. أن أقع صريعاً كل يوم كالشمس لأذوب وهجاً في عينيك الرائعتين .. كم أحبك يا زهرتي المسائية ..
- وأنا أيضاً .. أحبك .. يا أجمل ما حدث في حياتي ..
لقد كان كلامها صادقاً فعلاً .. لقد كان هو أجمل حدث في حياتها البائسة .. لم يعجب بها أحد قبلاً ولم يتهمها أحدٌ بالجمال يوماً .. لم تكن بالنسبة لأبيها وأخوتها سوى خادمة تعمل بلا أجر أو شكوى .. لقد توفيت أمها مذ كانت طفلة لذا لم تعرف معنى الحنان .. لقد برز وسام فجأة في حياتها وقرر أنه يحبها .. هكذا قال لها .. وهي وجدت فيه الخلاص من كل شيء .. هو يخدعها ؟ حسنٌ .. تعلم كيف تحمي نفسها , لكنها لن تتخلى عنه أبداً .. لقد أحبته .. هذه هي جريرتها الوحيدة ..
بقي وسام جالساً على الكرسي راضياً عن نفسه .. الكرسي الذي كان يراقب كل شيء ويعلم القصة ..
------------------------------
6,45 مساءً ..
- تعال نجلس قليلاً يا أخي .. إن لم أريح لساني فعلى الأقل أريح جسدي ..
- طيب أمرك .. أرأيت أولئك العاشقين اللذين كانا يجلسان هنا ؟
- تلك الفتاة القبيحة والشاب الوقح ؟! .. ما بهما ؟
- لا شيء .. فقط أضحك لحال الدنيا ..
- هذه مقدمة لنقاش فلسفي آخر إذن .. يا أخي أتعبتني ..
- أتعلم أمراً يا مفيد ؟ أشعر - بل أكاد أوقن - بأن البشر أكثر المخلوقات غباءً على وجه الأرض !
- أوف ! ما هذا الرأي الصارم ؟ لماذا ؟ هات ما عندك ..
- لأنهم المخلوقات الوحيدة الذين يعون الموت .. يعون فكرة انعدام الوجود في أية لحظة .. ومع ذلك .. ومع ذلك يتصرفون وكأنهم باقون ..
- اعذرني توفيق لكن هذه الفكرة سخيفة .. الإنسان أكثر المخلوقات مقامرةً لا غباء .. قل هذا .. نحن نقامر بكل شيء يومياً .. نقامر بالحياة مع احتمال الموت بكل لحظة .. نحن نمشي في مسارات معقدة دون أن نعلم حال البطارية التي نمتلكها .. في أية لحظة هناك احتمال أن هوب ! البطارية نفذ شحنها ..
- علينا ألا نمشي إذاً .. يجب ألا نقامر أبداً .. هذا رأس الحكمة ربما .. لن ننخدع كما الملايين على الأقل ..
- أعتقد أن هذا ما نفعله أنا وأنت .. لهذا لم نتزوج وننجب ..
- أتدري ؟ فكرة أنّي سأموت وتموت معي جيناتي قد بدأت تقلقني إن جئنا للصراحة .. هذه الجينات الثمينة يجب أن يرثها أحد ما ..
- أنا لا أحزن سوى على وسامتي .. ستندثر دون أثر على وجه البسيطة ..
- ما رأيك أن نقامر ونفعلها ؟ .. بالتأكيد هناك غبيتان في مكان ما تنتظراننا بشوق !
- غبيتان ترضيان بالزواج من ستينيين فاشلين عاطلين عن العمل ؟ لابد أن لديك موهبة رائعة بالتفاؤل !
ضحكا حتى ارتج صدراهما بسعال جاف وقاما من على الكرسي ليتابعا جدالهما الذي لا ينتهي .. لقد أمضوا العمر جدالاً ونقاشات .. لقد اخترعا الكثير من النظريات الخاصة بهما .. ربما أتيا إلى العالم الخطأ .. ذاك العالم السريع الذي لا يحتمل إضاعة وقته بنقاشات لا طائل من وراءها .. ربما هكذا كان يفكر الكرسي !
---------------------------------
10,00 ليلاً ..
بعد أن أُطفئت أنوار الحديقة وغادرها زوارها تاركين ورائهم الكثير من قشور المكسرات والبذور حول الكراسي .. حان الوقت لتكون الحديقة مملكته .. جرجر أسماله البالية المهلهلة وهرش رأسه مرتين ثم توسد الكرسي .. لقد كانت أجفانه متثاقلة جداً بعد يوم تشرد آخر .. لا أحد في هذا العالم يحنو عليه كما يفعل هذا الكرسي .. لا أبناؤه ولا زوجته الذين طردوه من المنزل قبل عشرين عاماً .. لقد قالوا أنه مختل .. " هه ! سأريهم .. سأريييييهآآآآآآه " .. غلبه النوم .. لقد كان تجسيداً رائعاً لمقطع الأغنية الذي يقول " هل فرشت العشب ليلاً وتلحفت الفضاء ؟ زاهداً فيما سيأتي .. ناسياً ما قد مضى " .. هو يفترش الكرسي هنا بالطبع ..
--------------------------------
وتمضي الأيام .. ويعرف الكرسي الكثير الكثير .. يعرف أن الحياة قاسية جداً على البعض .. أن الحياة في الخارج ليست كما هي حوله مجرد أصوات عصافير ونسمات تحمل روائح شذية .. لقد عرف هذا الكرسي العجوز أسرار الحياة كلها وهو جالسٌ في مكانه .. والزمن يجري ..