للتو فارقت الحياة . أجل فأنا الآن ميّت . وسوف أحادثكم من العالم الآخر
أحطتم جسدي المسجّى أمامكم والمحاط بمظاهر الاحترام والإجلال
والمكفن بالزبرجد والطيلسان.
وعليه ترشون الطيب والبخور, وتلبسون من اجله السواد.
تكرمون هذا الجسد الذي كان سجن لروحي.
غريبة هي عاداتكم و تقاليدكم أيها البشر.
كيف تنشدون الحرية وأنتم تبجلون السجون ؟! .
تكرهون القيود بأيديكم حتى إذا انفلتت تندبون فراقها, وتبالغون بتكريمها, وتعظمون وداعها.
تُسألون عن الدنيا فتقولوا إنها دار الفناء, وعن الآخرة فتجيبوا إنها دار البقاء.
وحين يجيئكم الموت يرعبكم ويغيظ قلوبكم .
أنكم عبدة أجسادكم , وإيمانكم صدى أنانيتكم .
تمنون النفس بالحياة بعد الموت لأنكم تمقتون الفناء وتحبون الخلود .
عبدتم الله بالشعائر , ونسبتموه بالأعمال .
جمعكم الدين , وفرقتكم المذاهب .
فالعبادة هي الروح الطيبة, الروح الطيبة هي المحبة, ا المحبة هي الأزلية والخلود.
من بين المشيعين رأيت نائبي ورفيقي ينتحب ويلطم خديه .
فتحت نفسه فإذا بها غبطة وسرور .
وسمعت حديثها تقول: كان عثرة أمامي فأزيحت, وصخرة في وجهي فتحطمت .
وحاجزا بيني وبين المنصب فأبعده الموت.
انصرفت عنها وفتحت سريرة زوجتي لأستبين ما بداخلها فوجدت حالها تهمس :
تركني و أنا في عز الصبا والشباب. من كان يظن أن الموت يتربص به ؟ .
من كان يظن أن موته يخطف استقرار حياتي , ويزعزع بنياني .
كان لي ملاذاً في الحياة وطمأنينة للمستقبل .
كان خبزاً يقيني من الجوع . وماءاً يرويني من العطش , ودفئاً يحميني من البرد .
كان شجرة أتفيء بظلها وأكل من ثمارها وأتشبث بجذورها .
كان جدولاً أغتسل منه , ورداءً احتمي فيه .
يا رب . وهذا قدرك . لا تحرمني من الحياة , ولا تقطع صلتي بالسعادة .
يا رب ارزقني من نعمتك وأرسل لي زوجا خيراً منه . خبزه أكثر من خبزه.
يا رب . وأنت الحكيم العادل . وهذه حكمتك . في داخلي قلب ينبض بالشباب فلا تترك
إحساسه موحشاً , ولا إيقاعه حزيناً .
ابعث لي رجلاً أفضل مما أخذت . شجرته أعظم علوا , وثمارها ألذ طعماً , وجذورها أكثر
عمقاً.
يا رب. أنت الرءوف بعبادك . وهذه مشيئتك . عيوني ترى جمال ما خلقت فأتطلع إليه
بحسرة وشوق, فلا تحرمني من جمالك ونعمتك.
تركت حديثها وذهبت أخي أفتح صفحة نفسه .
وجدتها حزينة بائسة .
تحدثه وتقول : هذا الجسد الذي فوق النعش صنواً لجسدك وليس لروحك .
حملكما بطن واحد . وتغذيتما من مشيمة واحدة , ولكن روحكما مفترقان .
فقد تحب روحك ما تكره روح أخيك , وتستلطف ما ينفر منه.
فارقك أخوك اليوم , وترك لك الحياة فلا تجانبها .
واحرص على أن تمتلك زمامها وتستزيد من نعيمها وتبتعد عن شقائها, فغداً أنت مفارقها.
إن الدموع لن تعيد الميت حياً , ولا الحزن والكآبة ترجع الروح إلى الجسد .
إن الحياة محطة قصيرة في رحلة الروح إلى الأبدية .
فتزود من وقودها وأهنا بما فيها واحمل زادك ليعينك مشقة السفر , ويخفف وطأة الرحلة .
تركت نفس أخي وتطلعت نفس أمي .
رأيت الغم يعتصرها والألم يمزقها . بحثت بداخلها فوجدت بؤسا وشقاء ولوعة وحسرة
أصغيت لحديث نفسها المفجعة تقول : انفطر كبدي , تقطعت أوصالي , وانطفأ نور عيني .
كأن الشمس التي في قبة السماء كتلة من نار تتوهج في قلبي .
وكأن القمر قطعة من جمر تكوي روحي .
ليتك يا نفس بديلا عن نفسه , وليتك يا رب أخذتني وأبقيته . امتني وأحييته .
كان ربيعاً في حياتي , وسنداً في ملماتي . رحيماً بي شفقا عليّ بشوشاً بوجهي ومفرجاً همي
محدثي ومؤنسي.
يا الهي . أرفق بروحه . اجعل الجنة مسكنها , والصالحين جلسائها .
يا الهي إن كان لي حسنات فأعطه إياها . وان كان له سيئات فعذبني بها .
يا الهي اغفر خطاياه وتغاضى عن ذنوبه واجمعني به يوم القيامة .
أمي أيتها الحياة الأزلية .
دمي الذي يسري في عروقي من شريانك . و نبضات فؤادي صدى لخفقان قلبك .
وإن روحي وهج من روحك . ما أنا إلا أنت .
الموت روح الحياة . مجددها وحاميها من العجز والترهل .
وحدّ الموت بين البشر على حين فرقتهم الحياة .
الموت رحمة بعد عجز . شفاء بعد مرض . هدوء بعد صخب .