مشهد لم استطع نسيانه طوال حياتي. مشهد يجسّد الانتماء الحقيقي للوطن الذي لا يعادله انتماء أخر.
ففي عام 2003 يوم سقطت بغداد في يد القوات الأمريكية .
وفي ساحة الفردوس وسط العاصمة بغداد حيث كانت قوات الاحتلال تسقط تمثال لصدام حسين وسط ابتهاج البعض بسقوط ما سمّوه الطاغية صدام حسين ودهشة الآخرين وذهولهم من
السرعة التي سقط بها جبروته , بين خائف على مصير بلده الذي لا يعلم إلا الله في أي طريق تمضي والى أي منزلق تسير.
الخوف وحده سيد المرحلة وهو السمة الواضحة على جميع الوجوه , حتى التي استبشرت خيراً وأبدت فرحاً . فقد كان الخوف والقلق أهم معالمها .
في تلك الساحة انتشر العراقيون جماعات وأفراد وقد كان احد مراسلي وكالة الأنباء يجول ليستطلع الرأي حيث تقدم من عجوز في الثمانينات من العمر وسألها الرأي بصدام حسين. تطلعت إليه العجوز فتأملته ملياً ثم قالت :
صدام حسين رجل فاسد وظالم وقد قتل أولادي الثلاثة وهذا جزاء الكافرين .
ثم سكتت وأخذت تذرف الدموع
أردف المراسل السؤال: جاءت القوات الامريكية لتخلصكم من ظلم صدام حسين ولتبشركم بأنها ستجعل من بلدكم جنة للحرية والديمقراطية والرخاء فما هو شعورك اليوم وقد سقط صدام حسين وتحررت العراق؟.
مسحت العجوز دموعها وبلهجة المتحدي الواثق من نفسه فاجأته بالقول : والله العظيم نار صدام حسين ولا جنة الأمريكان .
حقاً . لقد صعقتني هذه العجوز بإيمانها الشديد بوطنها . صعقتني بقوتها وعزة نفسها وإبائها فلم استطع أن امنع عيني من أن تذرف الدمع.
وهي الأم التي فجعها صدام بأولادها الثلاث , لم يجعلها حقدها عليه أن تغمض عينيها عن مصلحة بلادها . لقد استطاعت ببساطتها أن تدرك أن الولايات المتحدة الأمريكية جاءت إلى بلادها غازية ولم تأت لتخلّص العراقيين من ظلم صدام وقهره وبطشه. جاءت محتلة لتنهب خيرات العراق وتفتت لحمة شعبه وتقطع أوصاله. جاءت لتعمل تخريبا في العراق وتنكيلاً بالعراقيين ولتستنزف البلد . استطاعت هذه العجوز بحسها الوطني العميق أن تكشف زيف الادعاء وتعرف النوايا وتستبين الحقيقة .
فالولايات المتحدة الأمريكية عدوتنا كانت , ومازالت , وستبقى عدوتنا .
إنها الشيطان الذي يغوينا , والشر الذي يحيق بنا , والنار التي تكوينا . هي حقيقة واضحة لا لبس فيها , ولا غموض يشوبها , ولا غباشة تعتريها .
إذا كانت إسرائيل مصيبتنا . فالولايات المتحدة الأمريكية مصائبنا .
وإذا كانت إسرائيل خطر يهددنا , فالولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من الأخطار التي تهددنا وتهدد الإنسانية كافة . فهي تتلاعب بمصير شعوب العالم مستهدفة السيطرة والاستغلال ونهب الثروات. إنها الداعم لإسرائيل وهي الحامية لوجودها والساهرة على أمنها والراعية لمصالحها , وكل المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق العرب كانت بتأييد ومباركة أمريكية
كل البلاء الآتي من إسرائيل أمريكا هي مسببه وأمريكا التي تغذية . أمريكا بالنسبة لإسرائيل بضرورة الماء للحياة .
إن مصلحة العرب ومصلحة الولايات المتحدة الأمريكية صنفان مختلفان.
شعاعين باتجاهين متعاكسين تماماً لا يلتقيان ابد الآبدين. فهما متنافران تنافر الشحنات الموجبة مع الشحنات السالبة . إنهما كالزيت والماء لا يمكن أن يمتزجا .
أمريكا هي الجرح النازف في الجسد العربي الواحد . لقد استطاعت ولشديد الأسف أن تغمض العيون وأن تكتم الأفواه وان تطأطئ الرؤوس وتسجد الأقدام .
وان تجعل الأيادي تتمكن فقط أن تمتد لها طالبة الرحمة والمغفرة.
سوريا وحدها التي أعيتها. سوريا وحدها الواقفة بين الراكعين, العزيزة بين المتذللين القوية بين المستضعفين
سوريا وحدها المقاومة وسط المستسلمين, المتكلمة وسط الصامتين والأبية وسط الخانعين وقد أبى الشعب السوري العظيم إلا أن يكون كذلك . أبى إلا أن يكون مرفوع الرأس وعالي الجبين . وهو يعرف إن الضريبة غالية الثمن .
ولكن الحياة وقفة عز. ولن تستطيع أمريكا ولا أعوانها مهما عظمت التحديات , ومهما بلغ الحصار أن تحيدنا عن موقفنا . فنحن السوريون حين نموت نوت ونحن واقفين
أملنا بالمستقبل كبير ,وثقتنا بالنصر عالية ,وسلاحنا اللحمة الوطنية ومحبة الوطن .
أما الذين يراهنون على الولايات المتحدة الأمريكية فسوف يخسرون الرهان .
وسوف تنتصر الإرادة الوطنية التي تعمل من اجل الوطن والشعب والتحرير .