ناقشنا في المقال السابق - شؤون قومية سورية (الجزء الأول) : الانتماء للفوضى –
إلحاح موضوع الانتماء القومي في حياة المجتمعات و ضرورة وضوح هذا الانتماء للاتفاق على هوية إنتمائية واحدة ضمن الأمّة أو المجتمع ووصلنا لموضوع القومية العربية وعناصرها الثلاث السلالة و الدين و اللغة..و سنحاول في هذه المقالة مناقشة عوامل تشكل الأمّة عند أصحاب النظرية العروبية وهي السلالة و الدين واللغة كمحاولة للتأكد من وجود أمّة عربية واحدة و بالتالي قومية عربية صالحة كهوية إنتمائية لمجتمعنا .
مناقشة عنصر السلالة كمحدد للقومية العربية أو الأمة العربية
تبنّى المفكرون و المنظرون العروبيون موضوع وحدة السلالة كمشكل للأمّة (القومية )
مع أن هذا الافتراّض أو المنهج الفكري ساد في الغرب لفترة زمنية ليست قصيرة و لكنه انتهى بانتهاء الحرب العالمية الثانية إلا أن العروبيين لازالوا يتبنون هذه النظرية السلالية و يستنتجون أنه هناك أمة عربية واحدة تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج و من الأناضول إلى اليمن بسبب أنه في العصور الغابرة هاجرت بعض القبائل العربية من شبه الجزيرة إلى مناطق متعددة مثل الشام و مصر و المغرب و ما إلى هنالك من مناطق و بالتالي و بناء عليه فإن الانتماء القومي لكل من يعيش في هذه الأماكن التي هاجرت إليها بعض القبائل العربية هو عربي القومية !!!.
لو سلمنا جدلا بصلاحية موضوع السلالة كمشكّل لأي أمّة, نستطيع بسهولة دحض حقيقة أنه لا يوجد سلالة عربية صافية تمتد على هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة من المحيط إلى الخليج (حدود الوطن العربي عند العروبيين ),أي شخص مهما بلغ من البساطة في التفكير و المعلومات يستطيع دحض هذا الاستنتاج الغريب و البعيد عن الواقع و العلم , فجميع المكتشفات التاريخية و الآثار و الدراسات تؤكد بما لا يدعو للشك أن الحياة المتحضرة وجدت في بلاد الرافدين ووادي النيل و مناطق أخرى قبل شبه الجزيرة العربية بآلاف السنين..من المؤكد أن هناك هجرات تمت من شبه الجزيرة باتجاه مناطق مثل سوريا و مصر ولكن هل يعقل أن نتجاهل سلالات السكان الأصليين بشكل كلي و نأخذ فقط بالسلالة المنحدرة من القبائل الصحراوية التي استوطنت في هذه البقاع ؟؟ وهل يعقل أن الدماء التي تسري في عروق سكان هذه المنطقة هي دماء عربية فقط؟؟
هذا من ناحية و من ناحية أخرى هل يوجد سلالة صافية في الوقت الراهن ؟؟ هل يعقل أن العرق العربي صافي و لم يختلط بأي عرق آخر ؟
حسب الدراسات العلمية فقد امتزجت دماء جميع الشعوب على الكرة الأرضية وبالأخص في منطقة سوريا حيث كان هناك في العصور القديمة أكثر من ست سلالات اختلطت فيما بينها بالإضافة إلى السلالات التي قدمت شبه الجزيرة العربية, و كذلك التاريخ يؤكد أن منطقة بلاد الشام قد كانت مستقرا و ممرا لكثير من الشعوب و الحملات العسكرية من جميع بلدان العالم القديم, بعض هذه الجماعات اختارت أن تبقى في سوريا و انصهرت في دورة حياة المنطقة فهل نستطيع الآن و قد امتزجت الدماء هل نستطيع أن نحدد التحدر الدموي لأي شخص يعيش على هذه الأرض ؟؟
و من ناحية أخرى ..ألا يبدو هذا المبدأ شبيه بالنظرية القومية العنصرية ( النازية )
ومن ناحية أخرى أيضا ألا يؤسس هذا المبدأ لمجتمع مفكك تغلب عليه الأقليات بدلا من المجتمع الواحد ؟ أي أن السكان الذين لا ينحدرون من أصل عربي بعد افتراض نقاء الدماء الذي هو أمر مستحيل أو خيالي , أصبحوا عبارة عن جماعات غريبة في أوطانهم مما يشجع لتفكك و انحلال المجتمع ؟؟
هل سمعت يوما أن نابليون القائد العسكري الفرنسي الشهير هو إيطالي ؟؟ حتى المفكرين العروبيين يصفون نابليون بأنه فرنسي و لكن حسب نظريتهم نابليون يجب أن يكون إيطالي و الدليل هو أن نابليون ينحدر من جد إيطالي و هو أمر معروف ..فهل هناك شخص في هذا العالم يصف نابليون بأنه إيطالي ؟؟؟ حسب النظرية العروبية المستندة لمفهوم السلالة العربية نابليون هو إيطالي !!!!
إذن مما سبق نلاحظ عدم صلاحية بل و خطورة عنصر السلالة في تحديد الانتماء القومي للمجتمعات و بالتالي مفهوم العروبيين المستند إلى العنصر أو السلالة لتحديد أمّة ما هو مفهوم خاطئ و خطير إلا إذا اعتبرنا أن نابليون القائد الفرنسي المشهور هو إيطالي ...
عامل الدين كمحدد للقومية (الأمة ) عند العروبيين
تستند النظرية العروبية بشكل واضح إلى عامل الدين الإسلامي في تحديد الانتماء والقومية بالرغم أن أغلب العروبيين سينكرون بشدة هذا الطرح و وسيعززون إنكارهم بعدم تبني عامل الدين بشكل مباشر في كتاباتهم و مناهجهم و خططهم , ولكن الواقع يفرض استحالة فصل الارتباط العضوي بين العروبة و الدين الإسلامي , وقد اعترف أحد أشهر المفكرين العروبيين و أحد أهم مؤسسي النظرية العروبية (ميشيل عفلق ) بعدم القدرة على الفصل بين المصطلحين فيقول:
"لنسّم الأشياء بأسمائها وصفاتها المميزة، فنستبدل بالقومية "العروبة" وبالدين "الإسلام" تظهر لنا المسألة تحت ضوء جديد، فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ عن قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح، فلا يمكن أن يكون ثمة اصطدام. وبعد، فهل القومية محصورة بالأرض كما يظن – بعيدة كل البعد عن السماء؟" (2)
ويتابع أيضا
"الإسلام كان حركة عربية، وكان معناه تجدد العروبة. فاللغة التي نزل بها كانت اللغة
العربية، وفهمه للأشياء كان بمنظار العقل العربي. والمسلم في ذلك الحين لم يكن سوى
العربي". (3)
ومما يساعد العروبيين على إنكارهم تبّنيهم عنصر الدين في التسويق لمنهجهم القومي استعاضتهم عن مصطلح الدين بمصطلح ضبابي وهو ( مشاعر وآمال و تاريخ مشترك )
العروبة و الدين الإسلامي مرتبطان ارتباط عضوي غير قابل للإلغاء و هناك الكثير من الآيات الكريمة في القرآن الكريم تكرس الاندماج العربي الإسلامي , فحتى لو أنكر العروبيين اتكالهم على الدين يظل موضوع الدين في جوهر مفهومهم و لو كان بشكل خفي .....
والسؤال : هل يصلح الدين بشكل عام في تكوين رابط قومي يصهر مجتمعا ما في قومية واحدة ؟
الجواب : لا , والسبب بسيط وهو أن الدين ينظم علاقة الإنسان بخالقه ويدعو لتحسين أخلاقيات الإنسان و يتناول الجانب الإنساني و الروحي لتعاملات الإنسان اليومية و لا يتناول المصالح المجتمعية و لا يراعي شخصية الشعوب و الأمم , فالرسالة الإلهية ليس هدفها إرساء نظريات قومية و خلق روابط قومية بل مهمتها أسمى من ذلك ,الرسالة الإلهية هدفها إنساني و هي تخص البشر جميعهم و هدفها هو الإنشاء الأخلاقي للإنسان بغض النظر عن مكانه على هذه الأرض ..هدفها تحسين المظاهر الروحية و النفسية لبني البشر أجمعين , أما القومية رابط مشترك لجماعة من البشر موجود مسبقا بقوة الطبيعة و بتراكم تفاعلات البشر بعضهم و ببعض و تفاعل البشر مع البيئة في سياق تطورهم الإنساني عبر آلاف السنين ...
أضف إلى ذلك أنه تم عبر التاريخ السطو على الدين من قبل ( السلطات الدينية ) التي حاولت تسخير الدين لتسهيل السيطرة و جمع الثروات كما حصل في أوربا في العصور الوسطى إلا أنه حدث نزاع دموي بين السلطة الدينية و الإرادة القومية للشعوب كان نتيجته انتصار إرادة الشعوب المنبعثة من الشخصية القومية انتصارا نهائيا ( الثورة الفرنسية ) ولحقتها انتصارات أخرى في العالم المتحضر أدت لنشوء مرجعية الأمّة وليس مرجعية السلطة الدينية في إدارة شؤون المواطنين الدنيوية و بقي الدين ينظم الجانب الروحي للمواطنين , مما أدى لتطور هذه الأمم و تقدمها الحضاري عبر القرون الأخيرة ...
إذن في ظل سيادة السلطة الدينية ( لا يوجد أمة وقوميات. في الدين لا يوجد سوى رابطة المؤمنين بعضهم ببعض بصرف النظر عن الأجناس والبيئات وغيرها أي أن الدين من هذه الوجهة صار شيئاً سياسياً إدارياً دنيوياً يقول تقريباً بإلغاء الأمة والقوميات وباعتبار المؤمنين بالدين الواحد مجتمعاً واحداً يجب أن يعود أمره إلى المؤسسة، للدين الواحد المتمركز.) * (4)
...نشأ عبر التاريخ دول و إمبراطوريات (وليس أمم ) لها طابع ديني منها الإمبراطورية الإسلامية ( دولة أموية و عباسية و عثمانية ) و لكنها هذه الدول و الإمبراطوريات فشلت في القضاء على قومية الشعوب التي حكمتها و أحد الأمثلة على ذلك الأمة الفارسية التي دخلت تحت لواء حكم الدولة الإسلامية و لكنها مالبثت أن استعادت هويتها الفارسية و كذلك الدولة العثمانية التي لم تستطع القضاء على شخصية الأمم التي احتلتها رغم كل محاولات طمس قومية الشعوب التي حكمتها
وبالتالي نلاحظ عدم صلاحية عنصر الدين في تحديد الانتماء القومي للشعوب لسبب أن موضوع الانتماء القومي هو موضوع متعلق كما ورد سابقا بالرابط المشترك لجماعة من البشر موجود مسبقا بقوة الطبيعة و البيئة و بتراكم تفاعلات البشر بعضهم و ببعض و تفاعل البشر مع البيئة في سياق تطورهم الإنساني عبر آلاف السنين ...
مناقشة عامل اللغة في تحديد القومية (الأمة ) عند العروبيين
يحاول المفكرون العروبيون استعمال عنصر اللغة العربية كمحدد أو كركن هام من أركان قيام القومية العربية أو الأمة العربية . مثلا ساطع الحصري يقول " أن كل الشعوب التي تتكلم العربية، كل الشعوب الناطقة بالضاد، حسب التعبير المشهور، هي عربية. وكل فرد ينتسب إلى احد هذه الشعوب، هو عربي".(5)
"وإذا أضاعت امة من الأمم لغتها، وصارت تتكلم بلغة أخرى، تكون قد فقدت الحياة". (6)
والكثير من المفكرين العروبيين المعاصرين يختزلون دائما فكرهم العروبي بعبارة ( لغتي هي هويتي )
هذا الكلام مردود عليه ...إذا أخضعنا هذه النظرية لبعض التفكير نلاحظ الخطأ الجسيم الذي وقع فيه العروبيين في تحدد القومية العربية ..فاللغة لا يمكن أن تحدد هوية قوم و الأمثلة كثيرة ..مثلا حسب أخر الدراسات فإن عدد متكلمي اللغة الفرنسية في الدول الإفريقية سيتجاوز عدد الفرنسيين ...فهل الأفارقة أصبحوا فرنسيين ؟؟
مثال أخر بالرغم من أن ايطاليا فقدت اللغة اللاتينية وأخذت تتكلم الإيطالية، إلا أنها لم تفقد الحياة كأمة. وكذلك الأمر بالنسبة لأمم كثيرة كإيران التي تكلم مثقفوها وكتبوا باللغة العربية، ثم عادوا إلى اللغة الفارسية
مثال آخر هناك أمم كثيرة تتكلم لغة واحدة كبريطانيا واستراليا والولايات المتحدة الأميركية لكنها لا تشكل امة واحدة.
وكما يقول أحد أهم المفكرين في الشأن القومي :
(والحقيقة التي يؤيدها الواقع هي أنه ليس من الضروري أن يميل كل الذين يتكلمون لغة واحدة إلى تكوين أمة واحدة، والسياسة التي تتوهم مثل هذا الميل تستند إليه لا يكون نصيبها إلا الفشل. ولكن الذين يؤلفون أمة واحدة يميلون إلى التكلم بلغة واحدة وتكون هذه اللغة ضرورية لاستكمال الوحدة الروحية في الأمة. اللغة ضرورية للأمة بقدر ما هي ضرورية لأدبها. فاللغة وحدها لا تفيد شيئاً للأمة إلا بالمعاني المخصوصة المكتسبة من التعابير الأدبية. وهي من هذه الوجهة فقط تكون عاملاً ضرورياً لوحدة الأمة الروحية). (7)
إذن و بعد مناقشة عوامل تشكل الأمة عند العروبيين و ملاحظة عدم صلاحيتها نجد أنه لا وجود ل( أمة عربية واحدة) بل هناك أمم عربية فعلا و بالتالي لا وجود لشيء أسمه ( القومية العربية ) بل هناك قوميات عربية .
العروبة هي رابط معين ديني أو نفسي أو مزاجي أو لغوي أو ثقافي أو تراثي و هناك شعوب عربية وهذا أمر واقعي و صحيح وواضح وهذه الشعوب العربية أقرب لبعضها من الناحية النفسية و المصلحية عن غيرها من الشعوب و لكن هذا لم يجعلهم ( أمّة واحدة ) لا سابقا عبر التاريخ و لا الآن.
تنويه هام جدا : (وتفاديا للالتباس هناك أمم عربية و ليس أمة عربية على هذه الأمم العربية أن تنهج منهج التقارب فيما بينها لا منهج التناحر و الخلاف ...و الأمم العربية هي الأمم المتكلمة للغة العربية و تتشاطر في بعض المصالح و الأحداث التاريخية المتفرقة أو ما شابه ذلك)
المراجع :
(2) ميشيل عفلق , في سبيل البعث . بيروت .دار الطليعة الطبعة الثالثة 1963 صفحة 43
(3) المصدر السابق صفحة 55
(4) أنطون سعاده المحاضرة السابعة 7/3/1948
(5) ساطع الحصري، آراء وأحاديث في الوطنية والقومية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984 ص 79
(6) .المصدر السابق نفسه صفحة 21
(7) أنطون سعادة . بحث في أحد المجلات السياسية 1933