خلال العقود القليلة الماضية ، دأب الباحثون في قضايا التعليم العالي في العديد من بلدان العالم ولا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا على تشبيه طلاب الجامعات "بالزبائن" أو "المستهلكين". و السبب في ذلك الانتشار الواسع للتعليم العالي، وتوقع غالبية الناس الحصول عليه ولو لمرة واحدة في حياتهم على الأقل، وانتقال تكاليف التعليم العالي من الدولة إلى الطلاب أنفسهم، والتنافس المتنامي بين مؤسسات التعليم العالي.
في ظل هذه الظروف السائدة في المجتمعات الإستهلاكية خاصة، أصبح من الصعب عدم النظر إلى الطلاب كزبائن قادرين على دفع نفقات التعليم العالي أو كمستهلكين للخدمات التي تقدّم لهم. وهذا ما دفع بالعديد من الجامعات إلى تبني سياسات تسويق معقدة لجذب الطلاب إليها، فتلجأ إلى وسائل الاعلام لتقدم النصائح عن المؤسسات التعليمية أو المساقات التي يجب اختيارها. كما زاد الاهتمام بعملية تقييم الطالب للتعليم والتعلم في مؤسسته التعليمية وللخدمات الأخرى التي تقدّم له، شأنه في ذلك شأن نزلاء الفنادق والمسافرين على متن خطوط جوية ...
في بحث نشِر في عدد أيلول 2013 من مجلة "سياسة التعليم العالي" Higher Education Policy الصادرة عن اليونسكو والاتحاد الدولي للجامعات، يتناول مالكولم تايت Malcolm Tight من قسم بحوث التعليم في جامعة لانكاستر في بريطانيا تحت عنوان "الطلاب هل هم زبائن أم عملاء أم مجرد بيادق!!" تطور الطريقة التي يُنظر فيها إلى طلاب الجامعات الأمريكية والأوروبية، من "زبائن" أو "مستهلكين"، إلى "عملاء" ، أو "مساهمين في العملية"، أو "مستخدِمين" أو "متدربين على مهنة". ويرى الباحث أنه في عصرالمعرفة والاقتصاد العالمي الذي تسعى فيه الحكومات إلى إعداد خريجين في اختصاصات معينة مطلوبة في سوق العمل لدعم عملية التنمية وزيادة القدرات التنافسية على المستوى العالمي، أصبح الطلاب مجرد "أدوات" توجّه لتحقيق غايات وأهداف بعينها، وأهمها تحقيق المنفعة الاقتصادية للدول وزيادة تنافسيتها، بغض النظر عن ميول الطالب ورغباته.
الطلاب كزبائن أو مستهلكين
أما التعامل مع الطالب على أنه "زبون" أو "مستهلك" يدفع ثمن الخدمة التي يسعى للحصول عليها، فهي تنطوي على تشبيهه بمن يرغب بشراء سيارة أو أو وجبة سريعة- مع كل ما يترتب على ذلك من توقعات والتزامات- إذ يتحوّل هؤلاء الطلاب بعد دفع أقساطهم (التي غالباً ما تكون مرتفعة) إلى زبائن ومستهلكين للتعليم والخدمات الأخرى التي تقدمها الجامعة. تشبيه الطالب بالمستهلك consumer يعني أن الجامعة توفر المنتجات والخدمات على شكل برامج تعليمية ودعم لمتابعة هذه البرامج، وهذا أدى إلى تغييرات كبيرة في الجامعات، ليس فقط في الأوجه الأكاديمية حيث تهيمن "الجودة" وضمانها وتحسينها على جداول الأعمال، ولكن أيضا في مجالات أخرى كالدعم المقدم للطلاب، والتسويق المؤسساتي. وينتقد البعض هذا التشبيه الشائع خاصة في الولايات المتحدة على أساس أنه يشير إلى وجود مسافة لا مبرر لها تباعد بين الطالب والعملية التعليمية، ويسلط الضوء على الأنشطة الترويجية للأساتذة ويعزز نموذج الترفيه في التعلم ، ويحجّم بشكل غير لائق التجربة التعليمية كمنتج وليس عملية، ويعزز النزعة الفردية على حساب المجتمع. كذلك فهو يصور الطالب كمتلقٍ سلبي وليس كفرد نشط ومشارك يرغب معظم الأكاديميين التعامل معه.
ويعطي مفهوم الطالب كزبون customer صورة
مشابهة لمفهوم الطالب
كمستهلك، وإن كانت مختلفة
بعض الشيء. فهي تعكس صورة للطالب أكثر فعالية والتزاماً ، ما يعني أكثر من حيث
الاختيار والاستمرارية. لكنها أيضا تعرضت للانتقاد على نطاق واسع. فالطالب هنا لا
يستطيع تقييم خدمات التعليم العالي التي تلقاها إلا بعد مرور بعض الوقت على
تقديمها. فهو لا يدرك فوائد المعرفة والمهارات المكتسبة إلا بعد مرور بضع سنوات
على اكتسابها، وعندما تتاح له فرصة تطبيق معارفه في بيئة العمل.
الطلاب كعملاء أو منتجين مساهمين
أما تشبيه الطلاب "بالعملاء" clients فيعني ضمناَ أن العلاقة القائمة بينهم وبين أساتذتهم كتلك القائمة بين الأطباء أو المحامين أوالمحاسبين القانونيين، وسواهم من أصحاب المهن الرفيعة، وعملائهم. وهذا يعني وجود علاقة نوعية أكثر تفاعلا وعمقاً واحتراما بين الطالب والأستاذ. لكن البعض ينتقد هذه الفكرة أيضاً لأنها تجمّل العلاقة بين الطالب والأستاذ وتصوّرها على أنها أقرب بكثير مما هي عليه في الواقع. ورغم أن هذه الحالة المثالية الجذابة قد تتحقق في بعض مؤسسات النخبة ، إلا أنها ليست ممكنة في معظم الجامعات المعاصرة ، خاصة في السنوات الأولى من الدراسة الجامعية حيث يتم استيعاب مئات الطلاب وتنتفي إمكانية قيام أية علاقة نموذجية مماثلة بين الطلاب وأساتذتهم.. كما أن هذه النظرة تعزز النزعة الفردية للطالب على حساب المجتمع .
باحثون آخرون يؤثرون النظر إلى الطلاب كمنتجين مساهمين في عملية تعليمهم، مؤكدين بذلك على دورهم الإيجابي في الصف الدراسي، مبتعدين عن صورة الطالب كمتلقٍ سلبي ، معتبرين أن التعليم العالي عمل يساهم فيه جميع الفئات المعنية من طلاب وأكاديميين وغيرهم. وبالتالي يصبح الطلاب والمحاضرون وكل من يدعم العملية التعليمية أفراداً مرتبطين بمشروع تعاوني يركز على المعرفة، إنتاجها ونشرها وتطبيقها، وعلى تطوير المتعلمين، لا مجرد إنتاج تقانيين محترفين.
هذه الرؤية المثالية شأنها شأن كل ما سبقها، يفتقر إلى الواقعية، إذ يدل على أن جميع الطلاب لديهم القدرة والرغبة في الانخراط في الإنتاج المشترك للمعرفة. وهذا من المرجح أن يكون مقصورا على الطلاب الأكثر تميزا والأكثر تمتعا بالحافزية، وهو أكثر ملاءمة للبحث العلمي في مرحلة الدراسات العليا من الدراسة الجامعية الأولى، على الرغم من توافقه مع المقترحات الحديثة لتطوير التعليم اعتماداً على البحث العلمي منذ المرحلة الجامعية الأولى.
الطلاب كبيادق أو أدوات :
تغفل هذه التشبيهات بعض أوجه التعليم العالي المعاصر وتكتفي بالتركيز على المستوى الجزئي للتعليم العالي. وإذا ما تحول التركيز إلى المستوى الكلي، أي إلى التعليم العالي كنظام، أو إلى الدولة بشكل أعم، أو كما هو شائع جدا في هذه الأيام إلى الاقتصاد العالمي والمجتمع، فإنه تنشأ الحاجة إلى مناظير وتشبيهات مختلفة.
أصبح الطلاب اليوم أشبه "بأداة" تحرّك وتوجّه لتحقيق أغراض التنافسية والمنفعة الاقتصادية. فعندما تؤكد الحكومة البريطانية على سبيل المثال ضرورة تقوية التميز في التعليم والبرامج التعليمية لتأهيل الطلاب لشغل الوظائف المستقبلية، الأمر الذي يتطلب التركيز على اختصاصات مفتاحية ضرورية للنمو الاقتصادي وتعزيز المهارات المطلوبة في سوق العمل، فإنها تهتم بحاجات الاقتصاد وبقابلية الخريج للقيام بأعمال محددة تخدم احتياجات أرباب العمل، وهذا بحد ذاته تعامل مع الطالب "كأداة" لتحقيق سياسات معينة. صحيح أن هذا يتيح للدول المحافظة على موقعها التنافسي، إلا أنه يتجاهل تماماً ميول الطالب الحقيقية واحتياجاته. وهذا تحديداً ما يفسّر تبعية التعليم العالي في بريطانيا لوزارة الأعمال والمهارات والابتكار، وفصلها عن وزارة التعليم التي تركز على المدارس.
التعليم العالي حق للجميع.... ولا دراسات حقيقية حول احتياجات التنمية المجتمعية
وبالعودة إلى سورية، نرى أن الطالب الجامعي لا ينظر إليه في الجامعات والمعاهد الحكومية لا كزبون و لا كمستهلك، ولا كعميل، بل ينظر إليه كصاحب حق في فرصة تعليمية ، ومن الضروري توفيرها له وفقاً لما يسمح به معدله في شهادة الدراسة الثانوية، وبغض النظر عن ميوله الشخصية وعن مدى توفر فرص العمل بعد التخرج في الاختصاص الذي قبل فيه. وإن كان الأمر مختلفاً بالنسبة للجامعات الخاصة التي تسعى لاستقطاب الطلاب باتباع خطط تسويقية، معتبرة الطالب زبوناً يجب إرضاءه.
ويظل الهدف الأول من الأهداف الاستراتيجية لقطاع التعليم العالي بحسب ما ورد في رؤية التعليم العالي وخطة العمل للعام 2012 – 2013 وبرنامجها التنفيذي، هو زيادة فرص الالتحاق بالتعليم العالي وإتاحتها للجميع وفق "معايير الجدارة". لكن أحد الأهداف الاستراتيجية الأخرى هو تعزيز المواءمة بين مخرجات التعليم العالي ومتطلبات سوق العمل، وهذا يقتضي إحداث برامج واختصاصات تستجيب لاحتياجات التنمية المجتمعية وسوق العمل، وتطوير الخطط الدراسية والمناهج وتحسين مستوى التعليم التقني بما يلبي حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي، فإن الطالب يغدو أحد أدوات التنمية.
وهنا، لا بد من القيام بدراسات موثوقة و إجراء إحصائيات يمكن الركون إليها عن المتطلبات الحقيقية للتنمية و حاجات سوق العمل من الاختصاصات المختلفة، ليصار لمواءمتها مع مخرجات التعليم العالي. ويبقى التحدي الأكبر الذي يواجه قطاع التعليم العالي في سورية ما أطلق عليه ظاهرة "التصحر العلمي" أو الانحراف في نسبة الناجحين في الثانوية العامة من الفرع العلمي إلى الفرع الأدبي. لأن هذه الظاهرة تزيد في الطلب على الكليات النظرية على حساب الكليات التطبيقية. ومع ذلك، لا يبدو أن هناك أية خطط عملية لمعالجة هذه المشكلة على الرغم من انعكاساتها الخطيرة على خطط التنمية وعلى توفير فرص عمل للخريجين.
https://www.facebook.com/you.write.syrianews