(عن جريدة الوطن 8/4/2012)
في عام 2002،و بناءً على طلب من اليابان والسويد، اتخذت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الـ 58 قراراً ببدء «عِـقد التعليم من أجل التنمية المستدامة» ابتداءً من كانون الثاني 2005 ولغاية عام 2014، وأناطت بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو» مهمة قيادة هذه التظاهرة ووضع مسودة مخطط تنفيذي دولي لهذا العِقد.
وبناء على ذلك أعدت منظمة اليونسكو مسودة مخطط التنفيذ الدولي، ودعت مختلف الحكومات إلى النظر في الإجراءات التي يجب أن تتخذ لتطبيق «التعليم من أجل التنمية المستدامة» في استراتيجياتها التعليمية وخطط عملها.
ومن المبادرات التي أطلقت أيضاً ضمن هذا السياق: «الشراكة العالمية في التعليم العالي من أجل التنمية المستدامة» وهي شراكة تضم حالياً أكثر من 1000 جامعة وتهدف بشكل أساسي إلى تعزيز فهم أفضل لاستراتيجيات دمج التنمية المستدامة في الجامعات وغيرها من مؤسسات التعليم العالي، وتنفيذ أكثر فعالية لهذه الاستراتيجيات. والقيام بمسح عالمي وتقييم التقدم الحاصل لجعل التنمية المستدامة في صلب مناهج وبحوث مؤسسات التعليم العالي. كما تهدف إلى التعرف على الاستراتيجيات الفعالة، والممارسات الجيدة في نطاق تعزيز مفهوم «التعليم العالي من اجل التنمية المستدامة»، ومشاركة الآخرين فيها ونشرها من خلال الندوات والمؤتمرات وشبكة الانترنت.
عرَّف بروندتلاند Brundtland (رئيسة
اللجنة الدولية للبيئة والتنمية) عام 1987 التنمية المستدامة على أنها التنمية التي
تلبي احتياجات الأجيال الحالية ، دون المساس بقدرة الأجيال المستقبلية على تلبية
احتياجاتها. غير أن التعريف الشائع المعتمد عالمياً للتنمية المستدامة هو التنمية
التي تحقق التنمية الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، وحماية البيئة في آن معاً.
وقد لفت نظري مؤخرا أن مجلة سياسة التعليم العاليHigher
Education Policy التي تصدر عن الاتحاد الدولي للجامعات ومنظمة
اليونسكو خصصت العدد الأخير من عام 2011 لبحث موضوع التنمية المستدامة في مؤسسات
التعليم العالي. وقد شمل العدد خمسة أبحاث بحثت في دور الجامعات ومساهمتها في
التنمية المستدامة، واستعرضت تجارب بعض الجامعات في إدخال مفاهيم التنمية المستدامة
في برامجها التعليمية وخاصة برامج إدارة الأعمال، ومنها تجربة جامعة شنشو في
اليابان وتجربة جامعة غلوسترشير في بريطانيا، كما بحثت في بعض منهجيات تقييم
الاستدامة في مؤسسات التعليم العالي وتطبيق هذه المنهجيات على كلية الهندسة في
جامعة بورتو في البرتغال، وعلى جامعة ميموريال في كندا.
وقد استعرض البحث الأول وهو بعنوان «حول دور الجامعات ومساهمتها
في التنمية المستدامة» الذي أعده الباحث ليل فيلهو Leal Filho
من جامعة هامبورغ للعلوم التطبيقية، استعرض واقع التنمية
المستدامة في الجامعات بشكل عام، وتناول القضايا الواجب مراعاتها لضمان التكامل
المنهجي للتنمية المستدامة في مؤسسات التعليم العالي. وقد سبق للباحث المذكور أن
ألف كتابين عن التنمية المستدامة في مؤسسات التعليم العالي خلال العامين الماضيين،
الأول صدر في عام 2010 بعنوان: «التنمية المستدامة في الجامعات: الفرص والتحديات
والتوجهات»، والثاني صدر عام 2011 بعنوان: «التنمية المستدامة التطبيقية: طريق إلى
الأمام لتعزيز التنمية المستدامة في مؤسسات التعليم العالي".
وأشار الباحث إلى أنه على الرغم من أن أكثر من 600 جامعة في العالم قد ألزمت نفسها تجاه الاستدامة بتوقيعها معاهدات دولية واتفاقيات بهذا الخصوص، وعلى الرغم من أن بضعة آلاف من الجامعات تتابع مسائل تتعلق بالتنمية المستدامة بشكل أو بآخر، فإن العديد منها لم ينجح في إدماج مبادئ التنمية المستدامة بشكل كامل في مناهجها وأنشطتها لأسباب متعددة تتراوح ما بين انعدام الاهتمام المؤسساتي، وضآلة الموارد المتاحة، وعدم اهتمام أعضاء هيئة التدريس وغيرها من الأسباب.
وكان مسح دولي أجري مؤخرا على عينة من الجامعات، لتقصي أسباب
قلة عدد الجامعات التي نجحت في سعيها لتطبيق مبادئ التنمية المستدامة في برامجها ،
قد أظهر أن العديد من هذه الجامعات ينظر إلى التنمية المستدامة على أنها علم مجرد
للغاية وبعيد عن الواقع ، ويغطي طيف واسع جدا من المواضيع. كما أن أساسه العلمي غير
واضح تماما، وحجم الموارد اللازم تخصيصها له كبير جداً، إضافة إلى كونه علم تنافسي
للغاية ولا يوجد أفراد مؤهلين في المواضيع التي يغطيها.
والتحدي الذي يواجه منظومة التعليم في سورية بشكل عام والتعليم
العالي بشكل خاص هو كيفية المُساهمة بشكلٍ فعال في عقد التعليم من أجل التنمية
المستدامة، وكيف يمكن أن نـُدرج مفاهيم التنمية المستدامة في صلب برامجنا
التعليمية. فجامعاتنا تُعدُّ خريجين أكفاء في العديد من الاختصاصات العلمية
والهندسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها لا تخرِّج خبراء بالتنمية المستدامة.
ولم توضع أي خطط حتى الآن لادماج مفاهيم التنمية المستدامة في المناهج الجامعية
باستثناء جهد قامت به كلية التربية بجامعة دمشق بالتعاون مع منظمة اليونسكو في
العام الماضي فوضعت دليلا توجيهيا لادخال التنمية المستدامة في برامج كلية التربية.
إن تطبيق مبادئ التنمية الاستدامة في الجامعات ليس مسألة سياسة
جامعية فحسب. فالاستراتيجيات والسياسات وخطط العمل ليست
ذا فائدة ما لم تقترن بأفعال محددة في أحد مجالات التنمية المستدامة أو أكثر،
كإدماج مفاهيم التنمية المستدامة في المناهج التعليمية، وتحويل الحرم الجامعي إلى
حرم صديق للبيئة، والالتزام بممارسات التنمية المستدامة فيه، وإجراء بحوث علمية في
مجال التنمية المستدامة، والتدريب على قضايا التنمية المستدامة في سياق التعليم
المستمر والدورات التدريبية التي تنظمها الجامعات وغيرها.
ولا بد من تذليل كافة العقبات التي تعيق تطبيق مبادئ التنمية
المستدامة في الجامعات وذلك بالتوعية المستمرة بها ، وشرح انعكاساتها على النشاطات
المختلفة للمؤسسات التعليمية، والإجراءات الواجب القيام بها في الحرم الجامعي
لتعزيزها ودعمها. ولا بد من دحض الفكرة السائدة أن الاستدامة تخص الدول والمنظمات
فقط ولا تخص الأفراد وذلك بتوضيح الدور الذي يتوجب على الأفراد لعبه لتحقيق
الاستدامة. كذلك لابد من توضيح الصلة بين الفعاليات المهنية اليومية للمؤسسات
التعليمية وانعكاساتها على البيئة.
لقد آن الأوان لجامعاتنا أن تُدرج مفاهيم التنمية المستدامة في
مناهجها التعليمية وفي جميع فعالياتها وأنشطتها. فعلى سبيل المثال، يتعين على كليات
الهندسة ألا تؤهل طلابها على تصميم أبنية جميلة وسليمة من الناحية الإنشائية تحقق
الوظيفية المطلوبة منها فحسب، بل عليها أيضا أن تدرّبهم على أخذ الاعتبارات البيئية
في الحسبان عند القيام بأعمال التصميم، وذلك بتصميم أبنية كفوءة من ناحية استخدامها
للطاقة في الإنارة والتدفئة والتبريد، والحرص على أن يطرح الحد الأدنى من الملوثات
في الهواء. ويكون ذلك أيضاً باستخدام الطاقة الشمسية ما أمكن في الإنارة وتسخين
المياه، واستخدام مواد بناء تتمتع بخصائص عزل جيدة. كما يجب على هذه الأبنية أن
تكون كفوءة في استخدام المياه، وذلك بإعادة تدوير بعض المياه المستعملة واستخدامها
في أغراض أخرى كالغسيل وري الحدائق وغيرها. ويجب أن تتمتع الأبنية الجامعية ضمن
الحرم الجامعي بهذه الصفات الصديقة للبيئة لتكون الجامعات قدوة في تطبيق مبادئ
التنمية المستدامة على منشآتها وأنشطتها كي تحذو باقي الجهات حذوها والا تكتفي
بتدريس مبادئ التنمية المستدامة.
كذلك يجب أن تتضمن الخطط البحثية للجامعات بحوثا في المواضيع
المتعلقة بالتنمية المستدامة في محتلف الاختصاصات العلمية، كالطاقات المتجددة،
والتخطيط وصنع القرار المستدام، والمنشآت المستدامة، والتغير المناخي، والزراعة
المستدامة، وغيرها.
لا شك أن هناك صعوبات عدة تعيق إدماج مفاهيم التنمية المستدامة
في المناهج التعليمية الجامعية، من بينها عدم الإحاطة التامة بالتعريف الدقيق لهذا
المفهوم وما ينطوي عليه. فالبعض يستخدم تعبير «التنمية المستدامة» للإشارة لعملية
التنمية ودون إدراك للمفهوم الدقيق لهذا التعبير. تكمن الصعوبة أيضاً في تنوع
المواضيع التي لها علاقة بالتنمية المستدامة وتعددها ،فمنها مواضيع علمية وأخرى
تقانية واجتماعية وغيرها. تكمن الصعوبة أيضاً في الحاجة إلى طرائق تدريسية جديدة
تتمحور حول الطالب كالمناظرات وجلسات الحوار ،لا حول المعلم كما في التعليم
التقليدي، الأمر الذي يصعب تحقيقه عندما تكون أعداد الطلاب كبيرة.
ووفقاً لفيلهو لا بد من البدء بعدد من الخطوات كي تستطيع
الجامعات تطبيق مبادئ التنمية المستدامة في برامجها وأنشطتها أهمها توعية أعضاء
هيئة التدريس بالدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعات في تطبيق التنمية المستدامة،
وتوفير تدريب داخلي عالٍ لهم عن المسائل المتعلقة بالاستدامة، وتأسيس مراكز بحث أو
مجموعات عمل لمناقشة أنجع الطرق لمتابعة المسائل المتعلقة بالتنمية المستدامة ،
وتطوير شراكات وشبكات بين المؤسسات التعليمية والمراكز البحثية لتبادل الأفكار
والخبرات والممارسات الجيدة حول مختلف المواضيع المتعلقة بالتنمية المستدامة. وهذا
ما يتوجب على جامعاتنا أن تسعى لتحقيقه في المرحلة القادمة.