تتضمن رسالة كل جامعة ثلاث وظائف أساسية هي: التعليم وبناء القدرات، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع. تتلخص الوظيفة الأولى في قيام الجامعة بنقل المعرفة ونشرها من خلال برامجها التعليمية المتنوعة وعن طريق تزويد الطلاب بمختلف العلوم والمعارف التي تؤهلهم لدخول سوق العمل ودعم برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتتلخص الوظيفة الثانية في قيام الجامعة بدور أساسي في البحث العلمي في مختلف مجالات المعرفة العلمية والتكنولوجية والإنسانية، والعمل على تطويرها. أما الوظيفة الثالثة فهي خدمة المجتمع عن طريق لعب دور تثقيفي إرشادي، والمشاركة في تقديم الخدمات الاجتماعية والتوعية العامـة.
هذه الوظاثف الثلاث غالباً ما لا تعطى نفس القدر من الأهمية. فبعض الجامعات المرموقة في العالم دأبت على إيلاء البحث العلمي الأهمية القصوى على حساب عملية التعليم والتعلم، وذلك لعدّة أسباب أهمها أن عقود البحث العلمي المبرمة مع الجهات العامة والخاصة تؤمن للجامعة موارد إضافية كبيرة ، و لكون منزلة الجامعة العلمية العالمية مرتبطة بانتاجها البحثي بشكل مباشر، حيث أن معظم المؤشرات التي تعتمد عليها أنظمة تصنيف الجامعات العالمية ترتبط ارتباطا مباشرا بالإنتاج البحثي للمؤسسة.
وقد انعكس ذلك على أنظمة تعيين وترقية أعضاء هيئة التدريس فيها والتي باتت تعطي ثقلا كبيرا لإنتاج المرشح البحثي، بينما تعطي أهميه ثانوية لخبراته وإنجازاته التعليمية. الأمر الذي جعل كبار الأساتذة الباحثين الفائزين بجوائز بحثية كبيرة كجائزة نوبل وغيرها يقصرون نشاطهم على البحث العلمي ونادرا ما يشاهدون في قاعات التدريس، معتمدين غالباً على مساعديهم في إلقاء المحاضرات. وهذا أمر له دون شك انعكاسات سلبية على العملية التعليمية.
واللافت أن الكثير من الدول عادت لتدرك أهمية الوظيفة التعليمية للجامعات. وهذا ما حدا بالاتحاد الأوروبي لتشكيل "فريق رفيع المستوى" لتحديث التعليم العالي في أوروبا والارتقاء بأداء مؤسساته التعليمية. وقد أصدر الفريق مؤخراً تقريراً بعنوان "تحسين نوعية التعليم والتعلم في مؤسسات التعليم العالي الأوروبية"، خلُصَ فيه إلى نتيجة أساسية مفادها أنه في العديد من الجامعات الأوروبية لا يجري التركيز بما فيه الكفاية على عملية التعليم والتعلم مقارنة بالاهتمام الكبير بالبحث العلمي. وقد أوصى التقرير بضرورة أن يحصل جميع أعضاء هيئة التدريس في مؤسسات التعليم العالي في أوروبا على شهادة في التأهيل التربوي وذلك بحلول عام 2020.
الفريق الذي ترأسه رئيسة إيرلندا السابقة ماري ماك أليس و يتألف من عدد من الأكاديميين الأوروبيين المتميزين إضافة إلى رئيس شركة مايكروسوفت في أوروبا ، انتهى في تقريره إلى ست عشرة توصية تدعم فيها رأيه الأساسي وهو أن التدريس مهم بقدر أهمية البحث العلمي، وأن جودة التعليم والتعلم يجب أن تحتل مركز الصدارة على سلم أولويات الجامعات الأوروبية.
وقالت مفوضة شؤون التعليم أندرولا فاسيليو إن التوصيات جاءت في الوقت المناسب وأنها
ستبذل كل ما في وسعها لتنفيذها. وأشارت أنه في العديد من مؤسسات التعليم العالي
الأوروبية هناك تركيز غير كاف على التدريس مقارنة بالبحث العلمي، على الرغم من أن
كلاهما يقع في صلب رسالة التعليم العالي. وهذا يقتضي ضرورة إعادة التوازن.
ولعل أهم ما يوصي به التقرير أيضاً أن تضمن السلطات الحكومية المسؤولة عن التعليم العالي وجود إطار مستدام، ممول تمويلا جيدا لدعم جهود مؤسسات التعليم العالي في تحسين جودة التعليم والتعلم. كما ينبغي على كل مؤسسة وضع وتنفيذ استراتيجية لدعم جودة التعليم والتعلم فيها وتحسينها بشكل مستمر، وتكريس المستوى اللازم من الموارد البشرية والمالية لهذه المهمة، ودمج هذه الأولوية في رسالتها الأساسية، بحيث يكون هناك تكافؤ بين التدريس والبحث العلمي.
كذلك يجب أن يعطى التميز في التدريس ثقلاً هاما في آليات تعيين أعضاء هييئة التدريس
وترقيتهم، فتقّيم كفاءاتهم التدريسية عند ترشّحِهم للترقية في السلّم الإكاديمي كما
يقيّم إنتاجهم العلمي من بحوث علمية وتأليف ونشر.
كل هذا يحتّم تأمين التأهيل المهني اللازم للأساتذة الجامعيين ليمارسوا مهامهم التتعليمية على الوجه الأكمل. وبناء عليه، أوصت المجموعة بضرورة أن يدعم الاتحاد الأوروبي إنشاء أكاديمية أوروبية للتعليم والتعلم مستوحاة من معايير الممارسات الجيدة الواردة في التقرير. وأن تضع مؤسسات التعليم العالي استراتيجيات تدويل شاملة وتعمل على تنفيذها، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من رسالتها ووظائفها. وسيركز الفريق انتباهه في المرحلة القادمة، وكجزء من مهمته لإيجاد سبل تحسين التعليم العالي في الاتحاد الأوروبي، على كيفية تعظيم أثر أساليب جديدة لتوفير التعليم العالي النوعي مثل المساقات التعليمية المفتوحة والواسعة النطاق المقدمة عبر الانترنت ، أو MOOCs.
لم يلق هذا التوجّه معارضة من المؤسسات التعليمية، فقد رحّبت رابطة الجامعات
الأوروبية (EUA) الممثلة في مجموعة العمل
بالدعوة للتأهيل الإلزامي للأكاديميين، وبضرورة زيادة التركيز على مساعدة الطلاب
على تطوير مهاراتهم الريادية والمبتكرة، وإحداث الأكاديمية الأوروبية للتعليم
والتعلم. وشددت على أن التطورات في التعليم والتعلم يجب أن تأخذ بالحسبان احتياجات
الفئات المختلفة من المتعلمين بما في ذلك الطلاب المسنين، والتطورات الأخيرة في
طرائق توفير التعليم وأثر استخدامها، كالتكنولوجيات الحديثة على سبيل المثال.
لم يكن الاتحاد الأوروبي سباقاً في إدراك أهمية الوظيفة التعليمية للجامعات. فقد
سبقته إلى ذلك بعض جامعات العالم ذات
النشاطات البحثية المكثفة التي أدركت منذ فترة ليست بالقريبة أن تقديم برامج
تعليمية عالية الجودة لا يقل أهمية عن الإنتاج البحثي للجامعة، مما دعاها لتطبيق
أنظمة صارمة لضبط جودة العملية التعليمة فيها. وقد بدأت تشترط لقبول أعضاء هيئة
تدريسية للتعيين فيها أن يكونوا حاصلين على شهادة تأهيلية في "تطوير التعليم
والتعلم في التعليم العالي"، إضافة للشهادة الاختصاصية المطلوبة. كما أحدثت برامج
تعليمية خاصة لتأهيل أعضاء الهيئة التعليمية، وشجّعتهم على اتباع هذه البرامج بوقت
جزئي إضافة إلى واجباتهم التدريسية الأخرى. وقد أحدثت جامعة أوكسفورد برنامجاً على
مستوى الدراسات العليا ينتهي بالحصول على دبلوم عالٍ في تطوير التعليم والتعلم في
التعليم العالي Postgraduate Diploma in Learning and Teaching in Higher
Education.
والبرنامج الذي يمتد على مدى عامين بوقت جزئي ويهدف بشكل أساسي لتحسين التعليم وتصميم المساقات التعليمية وبيئة التعلم في جامعة أكسفورد من خلال بناء كادر من القيادات التربوية قادر على تقديم المشورة التربوية والتوجيه داخل الأقسام أو الكليات، وهو موجه لأعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة من ذوي الخبرة الذين يرغبون في إثراء فهمهم لآليات التعلّم وإشكالياته، وتحسين ممارساتهم التعليمية الخاصة، وتطوير أفكار لتحسين العملية التعليمية في الجامعة. ويمنح هذا الدبلوم من معهد أكسفورد للتعلم، وهو معتمد من قبل أكاديمية التعليم العالي في بريطانيا، ويتطرق لمواضيع على قدر كبير من الأهمية لأثرها في تطوير التعليم وتحسين التعلّم، منها آفاق أهداف التعليم العالي، وتعلم الطالب وتطوره، والتغذية الراجعة والتقييم، والتنوع والشمولية، وإعدادات واستراتيجيات التعليم، والتعليم في مجالات محددة، وتصميم المساقات والمناهج التعليمية، وقيادة التغيير التربوي. والجدير بالذكر أن أكثر من 120 أكاديميا في جامعة اكسفورد اتبعوا هذا البرنامج منذ إحداثه وحصلوا على المؤهل المطلوب.
لقد سعت جامعة دممشق منذ سنوات لإحداث برنامج تأهيلي مماثل في تطوير التعليم والتعلم في التعليم العالي بالشراكة مع إحدى الجامعات الأجنبية، ليحلّ محل دورات التأهيل البسيطة التي كان لزاماً على أعضاء الهيئة التدريسية اتباعها كشرط من شروط التأصيل. لكن هذا المشروع واجه بعض العقبات القانونية التي أعاقت إحداثه. واليوم بات من الضروري إعادة تفعيله والسعي الجاد لإحداثه لما له من انعكاسات كبيرة على تطوير عملية التعليم والتعلم في الجامعة. ويمكن أن يحدث هذا البرنامج في كلية التربية أو في مركز مستقل للتميز في التعليم العالي، وهو ماكانت جامعة دمشق تطمج لتحقيقه. ويمكن في مرحلة لاحقة إحداث أكاديمية وطنية لتطوير التعليم والتعلم في مؤسسات التعليم العالي على غرار الأكاديمية الأوروبية المقترحة.
لا بد من بذل كل
جهد ممكن لدعم وتطوير العملية التعليمية في جامعاتنا. فإعداد أعضاء الهيئة
التدريسية وتأهيلهم لتأدية وظيفة الجامعة التعليمية يتيح تأهيل خريجين متمكنين من
اختصاصاتهم وقادرين على التواؤم مع متطلبات سوق العمل دائمة التطور، وهو الوظيفة
الأساسية التي على الجامعات الاضطلاع بها. إن تطوير العملية التعليمية في الجامعات
لا يتطلب أعضاء هيئة تدريسية متميزبن في حقولهم الاختصاصية فحسب، بل أيضاً متميزين
في إعداد وتقديم المحاضرات والدروس العملية، وتصميم المناهج والمساقات التعليمية،
وتقويم الطلاب تقويما جيداً يتناسب مع الأهداف التعليمية للمقررات الدرسية،
واستخدام التكنولوجيات الحديثة في التعليم، وغيرها. ولتحقيق ذلك لا بد من توفير
التأهيل اللازم لهم عن طريق إحداث برامج متخصصة في تطوير التعليم والتعلم في
التعليم العالي، أسوة بالجامعات الأجنبية المرموقة. كما لا بد من إيجاد الآليات
الكفيلة بتشجيعهم على الالتحاق بهذه البرامج، كتوفير حوافز مادية ووظيفية لمن يتمكن
من الحصول على التأهيل المطلوب، وتخصيص جائزة سنوية للتميز في التعليم على غرار ما
تفعله العديد من الجامعات في العالم، وتعديل أنظمة الترقية بما يأخذ في الحسبان
الأداء التعليمي للمرشح للترقية العلمية، إضافة إلى انتاجه البحثي والعلمي الآخر.