في عدد 12 كانون الثاني 2014 من المجلة الإلكترونية البريطانية "عالم الجامعات " University World News ، التي تعنى بأخبار التعليم العالي في جميع أنحاء العالم، نشر مقال بعنوان "أزمة التعليم العالي الحالية والمستقبلية " تناول فيه كاتبه روجر تشاو من جامعة سيتي في هونغ كونغ ونائب رئيس جمعية التربية المقارنة في هونغ كونغ التطورات التي طرأت في العالم على التعليم العالي على مدى العقدين الماضيين، خاصة وأنه قد مضى عشرون عاماً على صدور تقرير البنك الدولي "التعليم العالي: الدروس المستقاة من التجارب "، وكان هذا التقرير قد لخص الأزمة التي يمر بها قطاع التعليم العالي العالمي وأهمها مسألة تمويل التعليم العالي. وكان التقرير قد خلُص إلى أن القيود المفروضة على الموارد، وعدم الكفاءة الإدارية أدت إلى ضعف الكوادر الإدارية والتعليمية، وإلى تدهور البنى التحتية، وإلى سوء معايير القبول في الجامعات، وارتفاع في معدلات تسرب الطلاب، وانخفاض نواتج البحوث العلمية، إضافة لقضايا الإنصاف ذات الصلة بتوسع التعليم العالي وانتشاره جماهيرياً.
وكان التقرير قد دعا إلى إصلاحات في السياسات، بما في ذلك تنويع مؤسسات التعليم العالي، وتطوير مؤسسات القطاع الخاص، وتنويع مصادر تمويل مؤسسات التعليم العالي الحكومية، وربط التمويل الحكومي بالأداء، وإعادة تحديد دور الحكومة في مجال التعليم العالي، وإدخال سياسات تركز على الجودة والإنصاف.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو فيما إذا كان
التعليم العالي في العالم قد اجتاز الأزمة التي كان يعاني منها أم أن الأمور ظلت
على ماكانت عليه. وعما سيحمله لنا المستقبل على الأرجح في ضوء المشهد العالمي
المتغير باستمرار.
المشهد العالمي المتغير
ازدادت عولمة التعليم العالي ونضجت ، لكننا نشهد
أيضاً منذ العقدين الماضيين توجهاً إقليمياً regionalisation
للتعليم العالي في جميع أنحاء العالم ، بدءا من
التجربة الأوروبية التي تجسدت بعملية بولونياBologna Process
والتي نجم عنها ولادة منطقة للتعليم العالي
الأوروبية ، وتكرار هذه التجربة في مناطق مختلفة من العالم .
فضلا عن أن
التعليم العالي عبر الحدود cross-border higher education
ازداد خلال السنوات الماضية، كذلك شأن المساقات التعليمية المفتوحة واسعة النطاق
عبر الانترنت(MOOCs) ، وبروز التعليم
عبر الانترنت والتعليم عن بعد حتى داخل الحدود الوطنية.
لقد تعرض مشهد التعليم العالي لزيادة المنافسة
داخل الحدود الوطنية وعبرها ، خاصة مع إدراج التعليم العالي في الاتفاق العام بشأن
التجارة في الخدمات General Agreement on Trade in Services
، وظهور لوائح تصنيف الجامعات، والتقلص المستمر
في تمويل التعليم العالي من القطاع العام، وفتح الحدود الوطنية لسوق العمل العالمية
التي أضحت في كثير من البلدان أكثر انفتاحا من أي وقت مضى .
وعلى الرغم من أن زيادة معدلات الالتحاق بالتعليم
العالي وتوسعه الكبير تبدو واضحةً للعيان في كل أرجاء العالم، إلا أن المسائل
المتعلقة بالتكلفة والجودة والمساواة ما زالت مطروحة على بساط البحث، بل غدت أكثر
إلحاحاً على مدى العقدين الماضيين من ذي قبل. علاوة على ذلك، فإن أهمية
relevance التعليم العالي أصبحت موضع تساؤل على
نحو متزايد من حيث عوائده على الاستثمار، ومواءمته لسوق العمل.
وأخيرا ، فإن حاكمية التعليم العالي
Governance، والتي كانت عالمياً ضمن سلطة الدولة
الوطنية، تطورت لتصبح أكثر تعقيدا مع ظهور كل من التعليم العالي عبر الحدود
والجامعات الخاصة، والتنافسية المتزايدة لهذا القطاع على الصعيد العالمي.
كل هذا يشير إلى أن الأزمات السابقة والتحديات
التي كانت تواجه التعليم العالي لم تجد لها طريقاً للحل، لا بل توسعت لتصبح أزمة
حاكمية ومواءمة .
التعلم مدى الحياة والجودة
رغم تغيّر السياق العالمي والإقليمي لمشهد
التعليم العالي، فإن عملية إصلاح السياسات ما زالت تنحو باتجاه اللامركزية والتنوع
وزيادة استقلالية الجامعات، إضافة للخصخصة والتمويل المبني على الأداء والالتزام
بمعايير الجودة، وتطوير سياسات الالتحاق بالجامعات لتكون أوسع وأكثر إنصافاً.
وفي أواخر التسعينيات بدأ التركيز على التعلم مدى الحياة، وكان من المفترض أن يكون بمثابة جسر نحو التعليم المستمر في مراحل الحياة المختلفة، لكنه طبّق فقط في سياق تعليم الكبار، وأهمل جوهره الحقيقي ووظائفة. إضافة إلى أن التعلم غير الرسمي ما زال مهمشاً، والاعتراف بالتحصيل العلمي في مراحل سابقة غير موجود تقريبا.
وقد شهد العقد الماضي زيادة في التركيز على ضمان
الجودة، وعلى الاعتراف المتبادل بمؤهلات التعليم العالي مما سمح بزيادة الحراك
الطلابي الدولي. لكن رغم ذلك تدهورت جودة التعليم العالي في جميع أنحاء العالم.
وهذا أدى إلى انخفاض معايير الجودة، وبالتالي فإن ضمان الجودة لم يعد يعني بالضرورة
تحسناً في نوعية التعليم!!
من جهة أخرى، وقعت اتفاقيات عدة بين الجامعات
لضمان الاعتراف المتبادل بالمؤهلات العلمية، لكن تنفيذها بقي تحت عرضة لعدم
التطبيق. وبشكل مشابه، فإن الزيادة الكبيرة في منشورات البحوث العلمية على مدى
العقد الماضي لا يعني بالضرورة أننا ننتج معرفة أفضل ، فازياد المنافسة والحاجة
لتسويق التعليم العالي أوجدت معايير مختلفة لقياس أداء الجامعات مبنية خاصة على مدى
مساهماتها في المجتمع أو رفد الاقتصاد الوطني.
إن ما تحقق في العالم خلال العقدين الماضيين كان
توسعاً في أعداد خريجي الجامعات وطلاب الدراسات العليا ، وزيادة في المؤهلات
التعليمية المرجعية المطلوبة في سوق العمل ، وتدهوراً في العائد على الاستثمار في
التعليم العالي مع ارتفاع في التكاليف.
هل حان وقت إعادة النظر في السياسات؟
بعد استعراض السياق العالمي المتغير لمشهد
التعليم العالي، والمواكب لتغير النظام العالمي الذي يبدو الآن متعدد الأقطاب،
يتساءل روجر تشاو إن لم يحن الوقت لإعادة النظر في سياسات التعليم العالي، والتفكير
الجدي في ضرورة إصلاحها وتكييفها مع الظروف والبيئة المتغيرة. وإن كان هناك حقاً
حاجة للاستمرار في تغذية الطبيعة التنافسية والتجارية للجامعات، و إن كان بالإمكان
منع الأزمات المستقبلية التي قد تواجه هذه المنظومة وإيجاد حلول لها، بينما لم
نتمكن من حل الأزمات السابقة.
وعلى الرغم من وجود اختلافات سياقية وحاجة إلى
إصلاحات في السياسات المحلية ، إلا أن الترابط الإقليمي والعالمي المتزايد للتعليم
العالي يتطلب نهجاً أكثر شمولية في صنع السياسات.
إن المقاربات التدريجية ماهي إلا معالجات قصيرة
الأجل وقد لا تكون مستدامة. فحاكمية التعليم العالي، وتمويله، والقدرة على الوصول
إليه، وجودته، ومواءمته... كلها أمور في منتهى الأهمية، لكنها هي عينها التي طرحها
البنك الدولي في تقريره عام 1994، وهي ما
زالت تشكل اليوم تحديات كبيرة،، والأرجح أن تستمر في أن تكون عاملا في أزمة التعليم
العالي في المستقبل، ما لم نبدأ بالتفكير في كييفية إيجاد الجلول الحقيقية لتلك
المسائل الماضية-الحاضرة، والتي ما فتئت تزداد تعقيدا.
تحديات التعليم العالي في سوريةة
لا يختلف مشهد التعليم العالي في سورية كثيراً عن المشهد العالمي. فالعديد من التحديات التي يواجهها قطاع التعليم العالي في العالم بشكل عام وفي الدول النامية بشكل خاص تشكل تحديات هامة لقطاع التعليم العالي في سورية أيضاً، كزيادة الطلب على التعليم العالي نتيجة للزيادة السكانية، وما يترتب على ذلك من ضرورة تخصيص موارد مالية كبيرة من الدولة لتمويل التوسع الأفقي للجامعات وتوفير فرص تعليمية إضافية ما يشكل أعباء مالية كبيرة على الدولة. كذلك فإن تطوير سياسة قبول جامعي جديدة تضمن في آن معاً توسيع شريحة المستفيدين واعتماد معايير قبول منصفة ما زال احد أهم الاهداف الاستراتيجية للتعليم العالي في سورية بعد الازدياد الكبير في اعداد الطلاب الحاصلين على معدلات مرتفعة في الثانوية العامة وصعوبة المفاضلة بينهم اعتماداً فقط على معدلاتهم.
وعلى الرغم من أن جامعات القطر بدأت تولي ضمان جودة برامجها التعليمية اهتماما متزايدا،ً وقد قطعت جامعة دمشق على الأخص شوطا ملحوظاً في هذا المجال، إلا أن الضغط الطلابي الكبير وخاصة في الكليات النظرية حال دون تطبيق العديد من الإجراءات التي تتطلبها هذه العملية، كاتباع طرائق تعليمية جديدة تعتمد على مجموعات طلابية صغيرة وغيرها. كذلك أدى ضغط الأعداد الكبيرة إلى اتباع طرائق تقويم لا تتناسب مع طبيعة المقررات الدرسية، كاستخدام الاختبارات المؤتمتة متعددة الخيارات في امتحانات المقررات الأدبية التي تتطلب قدرة تعبيرية وأسلوبية خاصة.
كذلك أدت الكثافة الطلابية الكبيرة إلى تدهور البنى التحتية للجامعات على الرغم من التوسعات الكبيرة التي شهدتها وافتتاحها العديد من الأبنية الجديدة. ورغم الجهود الكبيرة المبذولة لتنشيط البحث العلمي، فإن إنتاج الجامعات من البحوث العلمية ما زال متواضعاً جداً، الأمر الذي أدى إلى تدني تصنيف جامعاتنا في أنظمة التصنيف العالمية، حيث تعتمد معظم مؤشرات التصنيف على النتاج البحثي للجامعات.
وعلى الرغم من أن تعزيز الحاكمية وتطوير العمل الإداري والمؤسساتي كان وما زال من أهم أهداف التعليم العالي في سورية، الإ أن العديد من الاجراءات المنتظر اتخاذها منذ عدة سنوات كإحداث الهيئة الوطنية لضمان الجودة والاعتماد لمؤسسات التعليم العالي، لم تر النور بعد. كذلك فإن المركزية الشديدة هي إحدى المشكلات الأساسية التي تعيق تطور أداء الجامعات.
ويواجه قطاع التعليم العالي في سورية تحديا اضافياً يتمثل في انحراف نسبة الناجحين في الثانوية العامة من الفرع العلمي إلى الفرع الأدبي. وهي ظاهرة تعدّ في غاية الخطورة، لأنها تؤدي إلى زيادة الضغط على الكليات النظرية، وبالتالي وجود أعداد كبيرة من الخريجين فرص العمل بالنسبة لهم قليلة نسبة لخريجي الكليات التطبيقية. ولا يبدو أن هناك أية خطط عملية لمعالجة هذه المشكلة على الرغم من انعكاساتها الخطيرة على خطط التنمية.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن إحداث أنماط قبول جامعي جديدة كالتعليم الموازي، وكذلك أنماط تعليم جديدة كالتعليم المفتوح، قد وفر للجامعات مصادر تمويل إضافية لدعم خططها التطويرية، وخفف بالتالي من الاعتماد المطلق على المال العام المرصود من موازنة الدولة، وهذا يتوافق مع التوجهات الدولية بضرورة تنويع مصادر تمويل التعليم العالي. كذلك فقد خفف افتتاح فروع للجامعات الحكومية في المحافظات الضغط الطلابي الكبير على المقرات المركزية، وهذا أيضاً يتوافق والتوجهات العالمية. لكن ما زال هناك الكثير مما يتوجب القيام به خاصة على صعيد السياسات كي نواكب التغيرات والمتطلبات، ونكون مستعدين لمواجهة تحديات المستقبل.
جريدة الوطن 28/1/2014
https://www.facebook.com/you.write.syrianews