لطالما وفر العديد من المنظمات الدولية، ولنصف قرن تقريبا، منتدى لمناقشة قضايا التعليم العالي العالمية، وبعض القدرات في تحليل السياسات والبحوث الداعمة لهذا القطاع. وقد أنتجت وثائق تعنى بسياسات ذات صلة بقضايا التعليم العالي العالمية والإقليمية، ونشرت دراسات وكتب ومجلات، ورعت اجتماعات دولية، وقامت من وقت لآخر بتمويل وتنسيق مشاريع بحوث في قضايا دولية رئيسية، إضافة إلى جمع العديد من الإحصاءات.
ولعلّ أحد أهم ما قامت به أنها وفرت منتديات للمناقشة جمعت قادة التعليم العالي والباحثين، وفي العديد من الأحيان المسؤولين الحكوميين المعنيين بالتعليم العالي من جميع أنحاء العالم، الأمر الذي ينطوي على أهمية خاصة، لا سيما في قطاع متنوّع الجوانب مثل التعليم العالي والبحث والعلمي.
وقد استرعى انتباهي مؤخراً مقال نشر في العدد 278 (الصادر في 29 حزيران 2013) من مجلة أخبار عالم الجامعات University World News الإلكترونية والتي تصدر في بريطانيا، وهو بعنوان: "ثمة حاجة إلى تفكير طويل الأجل في مجال التعليم العالي" لفيليب ألتباخ Philip Altbach، وهو أستاذ باحث ومدير مركز التعليم العالي الدولي في كلية بوسطن Boston College. وقد أشار ألتباخ في مقاله إلى وجود أدلة كافية على أن أثنتين من المنظمات الدولية الرائدة المشاركة في مجال التعليم العالي وهما منظمة اليونسكو ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، قد انسحبتا في السنوات القليلة الماضية وإلى حد كبير من مجال التعليم العالي، مما أدى إلى ترك فراغ كبير.
وهذا التنازل أمر مؤسف للغاية لأن التعليم العالي
يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى 'قدرات تفكيرية'، وتحليل للقضايا المعاصرة، وجهة
تنظمية لعقد المؤتمرات والندوات الدولية.
كما أنه أمرٌ مستغربٌ جدا نظراً لأن التعليم العالي لم يكن في أي وقت مضى أكثر
أهمية لبلدان العالم مما هو عليه اليوم. فضلاً عن أن المؤسسات والنظم الأكاديمية
تتأثر على نحو متزايد بالاتجاهات العالمية في التحليل المقارن والنقاشات الدولية،
ويمكن أن تستفيد من تحليل "أفضل الممارسات" في مختلف أنحاء العالم.
الماضي والحاضر
وبالعودة إلى اليونسكو، يرى ألتباخ أنها لعبت في وقت ما دورا مفيدا في التعليم
العالي، على الرغم من سمعتها المعروفة بالبيروقراطية. وكانت المنظمة الوحيدة في
العالم التي تغطي كامل قطاع التربية والتعليم العالي. وكانت قادرة على جذب ممثلين
من البلدان النامية والدول الصناعية على حد سواء. وكان لها في بعض البلدان، اتصالات
فريدة من نوعها مع كبار المسؤولين الحكوميين. وقام عدد من مكاتبها الإقليمية ببناء
القدرات في مجال بحوث التعليم العالي، وتحليل السياسات. كما أن العديد من المجلات
التي كانت تصدرها، وفرت منبراً للتحليل والنقاش، مثل مجلة التعليم العالي في
أوروبا، والتي كانت تصدر عن المركز الأوروبي لليونسكو للتعليم العالي (اليونسكو
CEPES)، الذي أغلق في عام 2010، فتوقف
إصدار المجلة.
ويعدّ مؤتمرا اليونسكو العالميين حول التعليم العالي (اللذين عقدا في عامي 1998 و
2009) والاجتماعات الإقليمية العديدة الأخرى مؤتمرات مفيدة للغاية، حيث شكلت جميعها
محافل جمعت مسؤولين حكوميين ورؤساء جامعات وباحثين. لكن هذه البنية التحتية فُكَّكت
بشكل منهجي كامل خلال العقد الماضي. وعلى الرغم من أن بعض مبادرات التعليم العالي
العالمية التي أطلقتها اليونسكو كانت ذات جودة متفاوتة وعانت من عدم كفاية التمويل،
إلا أنها جمعت تقريبا جميع البلدان للتفكير في قضايا التعليم العالي، وفي سياقها
تم إعداد عدة وثائق وتقارير رئيسية.
وتعدُّ "أعمال التقييس" التي تضطلع بها اليونسكو ومنظمة التعاون والتنمية، بالتعاون مع المنظمات الأخرى، أساسية لجمع الإحصاءات التعليمية المقارنة. وتتميز هذه الجهود بتغطيتها العالمية الواسعة رغم دقتها المتواضعة. لكن الإنطباع السائد هو أن اليونسكو باتت تولي الإحصاءات اهتماما أقل. أما بالنسبة لإحصاءات منظمة التعاون والتنمية، فهي لا تغطي سوى الدول الأعضاء في المنظمة مع عدد قليل من البلدان الإضافية. وبالتالي فإنه لا يوجد منظمات أخرى تقدم خدمات أو وجهات نظر واسعة كالتي اختفت مع تنازل اليونسكو ومنظمة التعاون والتنمية عن دورهما في هذا المجال.
هناك عدد كبير من المؤتمرات الإقليمية أحادية
الغرض، مثل الاجتماع النصف سنوي لجامعة شنغهاي جياو تونغ عن التصنيف العالمي
للجامعات، والمؤتمر السنوي عن "التوجه نحو العالمية" الذي ينظمه المجلس الثقافي
البريطاني. لكنها مؤتمرات أقل أهمية إذ يحضرها عددا أقل من المشاركين، ولا يبدو أن
لديها توجهات رئيسية، كما أنه ليس لها صفة الديمومة.
كذلك هناك منظمات مثل الجمعية الأوروبية للتعليم
الدولي EAIE، ومرصد التصنيف الأكاديمي
والتميز IREG تجذب أعدادا متزايدة من
المشاركين العالميين لاجتماعاتها السنوية، لكنها تهتم عادة بجوانب محددة من التعليم
العالي؛ فالجمعية الأوروبية للتعليم الدولي تهتم بموضوع التدويل وانتقال الطلاب،
أما المرصد فاهتمامه ينصب على تصنيف الجامعات.
وعادة ما تهتم الوكالات والممولون "بمواضيع
الساعة" أو "الصرعات في التعليم العالي"
كالعناية بتدريب القوى العاملة وتوظيف الخريجين. لكن القليل من الوكالات والمؤسسات
اهتمت بهذه المواضيع من منظور دولي، ولم يكن لديها مصلحة في خلق قاعدة معرفية
للمناقشة الدولية.
وبحسب التنبؤات فإن المجموعة التالية من
المؤتمرات المتخصصة والمشاريع البحثية قصيرة المدى ستكون عن المساقات التعليمية
واسعة النطاق عبر الانترنت وغيرها من عناصر التعليم عن بعد. وعلى الرغم من أن هذه
الاهتمامات قصيرة الأجل تستحق الاهتمام، إلا أنه لا شيء يمكن أن يحل محل مواصلة
الاستثمار في منظور دولي واسع عن التعليم العالي العالمي، وهو ما يبدو أن اليونسكو
تخلّت عنه.
اليونسكو ترد :
ردّت اليونسكو على مقال ألتباخ بمقال نُشِر في العدد 281 (تاريخ 26 تموز 2013) من مجلة "أخبار عالم الجامعات" بعنوان: التزام اليونسكو المستمر في التعليم العالي" أكدت فيه أن عملها في مجال التعليم العالي يتقدم على العديد من الجبهات، ويساعد الوزارات والمؤسسات في بناء نظم فعالة. وأنها، أي المنظمة، مستمرة في استخدام سلطتها في عقد الاجتماعات "لتعزيز التغيير المستدام للتعليم العالي ذي الجودة العالية"، مؤكدةً أنها الوكالة الوحيدة للأمم المتحدة المفوضة بشؤون التعليم العالي. وبهذه الصفة، فإنها تحدد وتراقب تنفيذ المعايير والاتفاقيات، وتنتج بحوث السياسات وتقدم المشورة، وتقوي القدرات في التعليم العالي. وعلى الرغم من القيود المالية التي تعاني منها، فإن هذا العمل يتقدم عندها على العديد من الجبهات، أهمها قيادة ضمان الجودة. ففي عام 2007 أطلقت المبادرة العالمية لضمان الجودة وبناء القدرات، وهي تنفذها بدعم مالي من البنك الدولي. هذه المبادرة قدّمت الدعم لعدة شبكات إقليمية لضمان الجودة. ومتابعة لذلك، يجري الآن وضع مبادرة أفريقية لدعم مؤسسات وآليات ضمان جودة للتعليم العالي بواسطة مكتب اليونسكو الإقليمي للتعليم في أفريقيا.
كذلك تلعب اليونسكو دوراً في مجال سياسات التعليم العالي فتبحث اليونسكو القضايا التي تعدّ بالغة الأهمية مثل تصنيف الجامعات. ويأتي تقرير اليونسكو الذي نشر في تموز 2013، بعنوان "أنظمة تصنيف الجامعات والمساءلة في التعليم العالي: الأستخدام وسوء الاستخدام"، متابعة للمنتدى الذي عقدته في أيار 2011 وجمع بين هيئات التصنيف الرئيسية في العالم. ويضع التقرير منظوراً دولياً حول هذا الموضوع الذي أثار جدلاً كبيراً في الأوساط الأكاديمية. وتعدّ البحوث التي أجراها مؤخراً معهد اليونسكو الدولي للتخطيط التربوي ( IIEP) عن "أثر الإصلاحات في الحاكمية الوطنية على فعالية مؤسسات التعليم العالي في آسيا وأفريقي"، وكذلك عن "التوسع في التعليم في الدراسات العليا في البلدان الآسيوية"، مثالاً آخر عن التزام اليونسكو مناقشة سياسات التعليم العالي.
وحيث أن السياسات الفعالة تبنى على أدلة وبيانات،
فقد أكدت اليونسكو سعيها لتحسين جمع البيانات ونشرها في مجال التعليم العالي،
مشيرةً إلى أن معهد اليونسكو للإحصاء، هو المنظمة الوحيدة التي تنتج بيانات قابلة
للمقارنة عبر الحدود الوطنية للتعليم العالي لأكثر من 200 بلد وإقليم.
ويسعى المعهد إلى تحسين جودة البيانات من خلال
وضع معايير ومنهجيات جديدة، مثل التصنيف المعياري الدولي للتعليم، والذي صمم خصيصا
لتحسين قابلية المقارنة عبر الأوطان لبيانات التعليم العالي.
كذلك يقوم ببناء القدرات في مجال صنع السياسات
المبنية على استخدام محسن للإحصاءات. ويدعم هذا الجهد التزام اليونسكو في تعزيز
قدرات البلدان على تخطيط وإدارة أنظمتها التعليمية.
وبالإضافة إلى تقديم التدريب على ضمان الجودة،
فإن معهد اليونسكو الدولي للتخطيط التربوي يقوم أيضاً ببناء القدرات الإدارية
المؤسسية، وفي إنشاء نظم للرصد والتقييم، ووضع مؤشرات رصد للتعليم العالي.
كذلك يحتل المعهد موضعا رائداً في القضايا
المتعلقة بالغش الأكاديمي وقواعد الأخلاق للجامعات.
وأخيرا لفتت المنظمة الانتباه إلى أن لليونسكو
تفويض فريد من نوعه في الاعتراف الدولي بالدراسات والشهادات والدرجات العلمية، وهو
حقل يلعب دورا هاما في تعزيز وتنظيم حركية الطلاب.
كما تشارك بقوة في رصد ومراجعة الاتفاقيات الإقليمية الخمس في هذا المجال، وتوفر
إطارا قانونيا فريدا من نوعه لحوكمة توفير التعليم العالي على المستوى الدولي.
ضرورةٌ وليس ترفاً
يلاحظ مما سبق أن اليونسكو تنفي انسحابها الكلي من قطاع التعليم العالي، إلا أن نشاطاتها في هذا القطاع قد تقلصت دون شك إلى حدٍ كبير وهذا يدعو لللأسف، خاصة في هذا العصر الذي سمي بعصر المعرفة والذي تلعب فيه مؤسسات التعليم العالي في مختلف أنحاء العالم دوراً أساسياً في توليد المعرفة ونقلها. والواقع أن ألتباخ لم يكن الوحيد الذي انتقد تقلص دور اليونسكو في مجال التعليم العالي. فقد ارتفعت أصوات أخرى من داخل المنظمة أيضاً مشيرة إلى هذا التحول. فهذا جورج حداد، مدير فرع بحوث التعليم والاستبصار التابع لليونسكو يشير في تعليق نشرته مجلة أخبار عالم الجامعات في عدد سابق لها وتعرضنا له في مقال سابق، إلى أن نشاطات اليونسكو ذات الصلة بالتعليم العالي قد خفّضت إلى حدٍ كبير، وفككت شعبة التعليم العالي التي كان يرأسها بالكامل.
ما زالت الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تقليص دور اليونسكو في التعليم العالي غير واضحةٍ تماماً. البعض يعزوه لعدم توفر الموارد المالية اللازمة. والبعض الآخر يرى أن ذلك ناتج عن مواقف بعض الدول الأعضاء في المنظمة والتي ترى أن التعليم العالي ليس من الأولويات العالمية الملحة، وهذا أمر يدعو للأسف.
ففي عصر انتشرت فيه الفروع الخارجية للجامعات والبرامج التعليمية المشتركة، وظهرت فيه أنماط جديدة للتعليم العالي، كالتعليم العالي العابر للأوطان، والمساقات التعليمة المفتوحة واسعة النظاق عبر الانترنت MOOC، وشاعت فيه حركية الطلاب، هناك حاجة ماسة لهيئة دولية تتمتع بمصداقية وقبول واسع من الدوائر العالمية ذات الصلة بالتعليم العالي، بحيث تعمل هذه الهيئة على نطاق عالمي فتجمع ما بين الجهات المتعددة المعنية بالتعليم العالي وتهيء لها الأرضية اللازمة لمناقشة التحديات التي يواجهها هذا القطاع من منظور عالمي، وتهيء السبل المساعدة لاقتراح الحلول المناسبة لها، كوضع اطار تنظيمي لحركية الطلاب، والاعتراف بالدرجات والمؤهلات العلمية لمختلف أنماط التعليم، وغيرها.
كما أنه من الضروري بمكان وجود هيئة دولية تُعنى بجمع البيانات والإحصاءات دورياً عن مؤشرات التعليم العالي في مختلف دول العالم، وتقوم بنشرها بحيث تسهل المقارنة عبر الأوطان، مما يسمح بتبني قرارات وسياسات سليمة. ومن المفيد بمكان أن تتعاون هذه الهيئة مع مختلف المنظمات والشبكات المهنية في مختلف أنحاء العالم لمساعدة الوزارات ومؤسسات التعليم العالي في بناء أنظمة تعليم عالي تستطيع أن تواجه بفعالية تحديات التنمية الوطنية.
من الواضح أنه لا
يوجد في الوقت الحالي ولا في الأفق المنظور منظمة قادرة على الاضطلاع بهذه
المسؤولية الكبيرة والمهمة غير اليونسكو. لذا من الضروري جداً أن تستعيد مكانتها
ونشاطاتها في مجال التعليم العالي، خاصة وأن مديرة عام اليونسكو إيرينا بوكوفا
Irina Bokova قد تعهدت بتوسيع نشاطات
منظمتها لتشمل تقديم مزيد من الدعم للتعليم العالي في جميع أنحاء العالم في
المرحلة القادمة. كما أن عليها أداء عملها بمنتهى الشفافية وبعيدا عن كل الأجندات
السياسية. ولا يجوز أن تخضع لأي اعتبارات غير تلك التي يجب أن يحتكم إليها العمل
العلمي والتربوي والثقافي.