أحيانا يحدث لنا أن نسعد فجأة بدون أن ندري ما هو لسبب وكأن السعادة غيمة مارة تخيم علينا قليلا من الوقت وتمضي بحال سبيلها قبل أن نفهم ما لذي أسعدنا هكذا
وعندما نبدأ بالبحث عن سبب سعادتنا فلأننا نكون قد خسرنا تلك الحالة البعيدة عن الوصف والتعبير ونحاول جهدنا لاسترجاعها ثانية والعيش فيها واستغلال فرصة أننا سعداء .
إذا فكرنا قليلا واكتشفنا أننا سعداء فيجب أولا أن نحس بالامتنان لشخص ما أو لأشخاص يسعدنا وجودهم قربنا , ولكن اذا تأخرنا باكتشاف ذلك فذلك سينقلب إلى حزن يسببه الفقدان لهؤلاء الأشخاص قبل أن نكتشف أهمية وجود نورهم في حياتنا .
في إحدى أمسيات الخريف الهادئة كانت تتلاعب فيها نسمة باردة تفتح طريقاً لشتاء قاس وراءها
صار يتذكرها ...
كان يجلس وحيداً على ضوء باهت اصطنعه على الشرفة ممدداً جسمه الطويل على كرسي أمامه وعينيه الخضراوين تلمعان وتدمعان من شدة الدخان الذي يعلو ببطء ليغطي ملامحه الحزينة .
ينفخ دخان أركيلته ... وينفخ معها شعورا غريبا بالضجر واليأس
صار يتذكرها ... وهو يسمع الموسيقا التي كانت تجبره على سماعها لشدة حبها لها
في كل زاوية يراها تأخذ وضعية مختلفة وتستعد ليلتقط لها صورة ... لطالما أحبت أن يصورها بكاميراته
تتردد ضحكتها التي تبدأ بهدوء ناعم وتعلو شيئا فشيئا لتملأ عليه دنياه ... ولكنه كلما تذكرها شعر بانقباض مخيف لأن تلك الضحكة كانت تتلاشى شيئا فشيئا في مخيلته وتبتعد تدريجيا عن مسامعه .
كم من الصعب أن نحس فجأة بحب عظيم يعجز اللسان عن وصفه لشخص لطالما حاول إقحامنا إلى قلبه واستهترنا بعطائه الغير محدود بسبب أنانيتنا وشعورنا أن هذا الشخص لن يحب غيرنا دون أن نسأل أنفسنا إذا كنا نستطيع العيش بدونه .
وعندما نكتشف هذا الحب المتأخر نفتش عن ذلك الحبيب فنكتشف أننا دفعناه للقبول بغيرنا ليحاول الهرب من طغياننا عليه حتى لو كانت النتيجة هي تعاسة قلبه الذي يموت ولا يموت حبه وشوقه إلينا .
فجأة قرر أن يذهب لزيارتها قبل أن تطير مع ذلك الشخص الأكثر حظا منه
وذهب إليها ... انتظرها عند باب مدرستها ... رآها تقبل من بعيد كلعبة بيضاء ناعمة يحيط بها طلابها صار يراقبها ويحس كلما اقتربت منه .. كم هي بعيدة عنه
فوجئت وارتبكت عندما رأته.. سلمت عليه واستغربت رؤيته أمام باب المدرسة .. لطالما انتظرت رؤيته هناك وتمنت أن يفاجئها ... كم تأخر عليها
سألته ما الذي جاء بك الآن...
أجابها .. عرفت أنك ستأتين اليوم لوداعنا فقررت أن أراك بمفردنا فهلا قبلت دعوتي على فنجان شاي أخير يا ابنة عمي
فابتسمت ومشت أمامه بثقة ...ومضى وراءها بحزن
طلبا الشاي وجلسا ينتظران قدومه ... ليس هنالك أصعب من أن يجلس عاشقان محكومان بالغربة عن بعضهما ينتظران كأس شاي ساخن يتدفآن به لعل أحدهما يتشجع ويبادر بكسر حاجز الجليد الذي يزيد سماكةً كلما تأخر فنجان الشاي أكثر .
تشرين كئيب في الخارج .. وربيع خجول في الداخل كأنهما يلتقيان لأول مرة
تشرب الشاي بهدوء ويشرب من عينيها دون انقطاع
تراقب المطر الناعم في الشوارع وهو يراقب المطر الثائر بعينيها الدامعتين
لم ينطق بكلمة لطالما قتلها بصمته ... ولكن في حضرة كل ذلك الحنين كيف للكلمات أن تتطفل وتعبر عن الشوق
أخيرا أطبقت جفنيها لتسمح لتلك الدموع الواقفة على بوابة عينيها بالسقوط وأصلحت من جلستها ونظرت إليه وقالت : ما لذي تود قوله لي فها نحن بمفردنا
أردت أن أسألك هل أنت سعيدة ؟
إذا كانت السعادة بالحب فأنا دفنت السعادة منذ اليوم الذي لبست فيه اسما غير اسمك
يومها فقط مات ذلك الأمل الذي كنت أراه فيك وأخذت عهدا على نفسي لأخلص لمن أحبني من كل قلبه ولبست هذا العهد خاتما يربطني به إلى الأبد وأحاول أن أبادله الحب بتقديري لما يكنه لي بقلبه ولن أستهتر بحبه لي حتى لا يحس بما أحسسته يوما بسببك
قالت له كلامها وحملت حقيبتها المليئة به ولم تستطع النظر بعينيه قبل أن تغادر لعدم ثقتها بقلبها .. خافت إن نظرت بعيونه أن يفضحها ضعفها الواضح بعينيها ومضت دون أن ترى ما لذي فعلته به ... كان يلزمها ليل بكامله لتبكيه مع أنها بكته قبل اليوم كثيرا ولكنها هذه المرة قررت أن تبكي بصوت عالٍ ...أن تصلي لله ليزيحه عن عرش قلبها ... أن تصرخ بوجه القدر الذي لم يأت لها بهذا الحب عندما أرادته واحتاجته لما أتى به الآن بعد أن حجز لها مقعدا بجانب شخص غيره .