صباح يوم الأربعاء الماضي لم يكن دوامي في الهيئة عادياً و روتينياً كغيره من الأيام، كان يوماً استثنائياً رائعاً، فما أن دخلت مكتبي حتى كانت الإذاعة الداخلية للهيئة تبث النداء التالي "على من يرغب بالمشاركة في رفع أطول علم سوري التوجه إلى المرآب الساعة 10:15"
شعرت بحماسة تدبُ في أوصالي لسماع النداء، حدّثتُ نفسي كيف لا أشارك برفع علم سورية في مثل هذا الظرف الذي نمر فيه، وإن لم أشارك في هذه المحنة فمتى أشارك؟ فقررت المشاركة وأخذ ابنتي آية ذات الست سنوات معي لمكان الحدث، فهي مولعة كثيراً بالرسم فأنا أراها كل يوم ترسم علم سورية الذي طالما تسألني عن معنى ألوانه، كما أنها مولعة كثيراً بسماع الأغاني الوطنية، التي تحفظها أكثر مني وتطلب مني حفظها دوماً، وترددها بحركات طفولية بريئة لا أحلى ولا أجمل.
ذهبتُ وابنتي آية برفقة بضع عشراتٍ من زملائي في الهيئة، لم يأخذ طريقنا وقتاً طويلاً لانشغالنا بالحديث عن هذا الحدث الكبير، وعندما وصلنا رأيت جموع المشاركين، الذي قدموا بمئات الآلاف، يدفعهم، وأنا مثلهم، حبهم وانتمائهم لهذا البلد في هذه المحنة العابرة بإذن الله. وسط هذه الجموع كان علينا أن نشق طريقنا لرؤية العلم، وأثناء سيرنا رأت آية شخصاً يوزع صور السيد الرئيس، صاحت بنبرة توسل "أريد صورة رئيسنا بشار"، كما اعتادت تناديه، قلت لها "اذهبي واحضري واحدة"، فجاءتني باثنتين، صورة لها وصورة لي، حَملتْ الصورة على صدرها، وطلبتْ مني أن أحذو حذوها ففعلتُ.
تابعنا سيرنا وسط الزحام، وما هي إلا لحظاتٍ حتى رأيت علم سورية، العلم القياسي، العلم الأجمل، العلم الكبير، كان شعوري لا يوصف ويصعب تجسيده بكلمات، اغرورقت عيناي بالدمع، وتسارع نبض قلبي، أما آية فراحت ترقص فرحاً ما أن رأت العلم، قالت لي "بابا دعني ألمس العلم"، كان عليّ أن أشق طريقي وسط عباب البشر لأدع يد ابنتي تلامس ذلك العلم الطويل الممدود على الأرض على مرمى النظر، لمسته آية وهي تردد أغنيتها "ملايين ملايين السوريين"، ثم سألتني "متى سنرفعه فوق رؤوسنا"، أجبتها "سنرفعه جميعاً بعد قليل"، ثم راحت تمطرني بأسئلتها من أين اشتروه، ومن الذي أخاطه، وكم استغرقت خياطته، وكم وزنه، وهل نستطيع حمله، ولماذا هو ممدود على الأرض، ولماذا يسير عليه بعض الناس؟.... كنت أتهرب من أسئلتها وأسألها بدوري إن كانت تشعر بعطش أو جوع، كانت لا تريد أي طعام أو شراب كانت تريد أن تسأل وتسأل.
وقفنا بمحاذاة العلم ننتظر تعليمات البدء برفعه، كان بعض الناس واقفاً، والبعض الآخر يهتف، والبعض يغني، والبعض يحمل لافتات الولاء والانتماء، والبعض كان مازال يتوافد زُمراً زُمراً في جماعات تردد أغانٍ وشعاراتٍ تملأ فضاء المكان.
كان بعض الشباب يُحملون على الأكتاف يهتفون للوطن وقائده والناس تردد خلفهم بأعلى أصواتها، رأيت علم سورية مرسوماً على الأوجه والأذرع والأيدي. كأن الناس في عيدٍ كبيرٍ، إذ رأيتُ الطفل الرضيع والصبي والشاب والشيخ الكبير، رأيتهم نساءً ورجالاً جاؤوا فرحين طوعاً نداءً للوطن، ورأيت بعضهم يردد منفرداً أغانيه وشعاراته، وسمعت إمرأة تدعو في سرها لأمن الوطن ولقائده.
تكرر هذا المشهد ساعات، وخلال تلك المدة كنت أسأل آية إن كانت تشعر بعطش أو جوع، فكانت تنزعج مني لأنني كنت أقاطع غناءها و تصفيقها، فهي كانت منهمكة تشارك الناس هتافاتهم وأغانيهم وتصفيقهم، كنت خائفاً عليها لأنها لم تتناول شيئاً منذ الصباح والجو مشمس حار، التفتت بعض زميلاتي إليها وناولنها شيئاً مما في حقائبهن من فواكه وبسكويت وماء، كانت ترفض لأنها تريد الاستمرار بغنائها، وتحت إلحاحهن قبلت ذلك على عجلٍ لأن إطلاق بالونات بألوان العلم قد بدأ وعليها أن ترى ذلك وتعُّد البالونات، وتسألني كم عددهن وأين يطرّن، ولماذا هذه الألوان و ...و...؟.
وأمام هذه الصورة وهذا العرس الكبير، جاءت لحظة رفع العلم، اللحظة التي انتظرناها جميعاً لأكثر من ساعتين بشغف كبير. رُفع العلم، وطلبتْ مني آية أن أرفعها لتشارك برفع العلم، فقمت بذلك وراحت تُحرك العلم أسوة بمن حولها، وفي هذه الأثناء جاءت الحوّامة وطارت على ارتفاع منخفض فوق رؤوسنا تُصّورُ هذا الكرنفال العظيم، وبدأ الهتاف يشتد، والصفير يعلو، وتلويح الأيدي يكثر، كلٌ يريد أن يظهر على شاشة التلفزيون ويقول للعالم أجمع هاأنا ذا السوريُّ بكل فخر، أعلن ولائي وانتمائي لسورية، وأنا سلمٌ لمن سالمها وحربٌ لمن حاربها. كان العلم يموُج بين الأيدي والأصوات تعلو لتعانق عنان السماء والأذرع تلّوح في كلِّ مرة تجيء الحوّامة. و تكرر هذا المشهد مراراً وتكراراً والناس لا تضجر أو تمل رغم حُرقة الشمس.
سرعان ما انقضى يوم عرس العلم بعد أن استمر ساعات وساعات، عاد كل إلى بيته، وفي طريق عودتنا، كانت الأصوات والهتافات ما تزال تعلو وتُرفع، ومواكب السيارات المزينة بصور القائد وأعلام الوطن تغص بها الشوارع والطرقات. وما أن وصلتُ وابنتي آية البيت حتى راحت و وضَعتْ الصور التي أحضَرتْها في غرفتها ثم أدارت التلفزيون لتشاهد نشرات الأخبار، كانت تبحث عن نفسها وسط جموع المشاركين، كانت تريد أن تقول لأترابها أنها شاركت في عرس العلم، وأنها كانت على شاشة التلفزيون، وأنها ستظل تشارك في كل عرس وطني مادام فيها عرق ينبض.