بعد حقبة من السياسة الاقتصادية الفاشلة التي انتهجتها الحكومات السابقة يبدو في الأفق أن هناك بعض العاقلين يحاولون الآن تحسين ما أفسده الدهر و هذا ممكن فنحن لسنا بصدد معالجة إنسان عجوز و محاولة إعادته شابا .. هنا لدينا اقتصاد مشوه و يمكن إذا توفرت الإرادة و الحكمة و الخبرة و العلم يمكن تحقيق خطوات هامة و مرئية خلال مدة قياسية خصوصاً أن متطلبات النجاح متوفرة ..
تم في الفترات السابقة التسويق لما يسمى باقتصاد السوق الاجتماعي ( و الإعلام السوري تورط حتى الإذنين في التسويق المحموم لهذا النوع من الفلسفة الاقتصادية ) و بغض النظر عن التسمية و عن الممارسة و النهج الذي تم انتهاجه فقد تميز هذا الخط بالموصفات التالية :
1- تم دعم حفنة من الرأسماليين الاستغلاليين و تم التعويل عليهم لممارسة نوع من عملية قيادة المجتمع و الاقتصاد و لكنهم فشلوا في ذالك أو على الأقل نجحوا في تخريب الاقتصاد .....
2- تم تحويل الاقتصاد من اقتصاد يمكن أن يكون إنتاجيا إلى اقتصاد ريعي و مازال أنصار الاقتصاد الريعي يدافعون عنه بشراسة حتى هذا الوقت و هؤلاء متمثلين بأعضاء الفريق الاقتصادي ذوي الخلفية المصرفية
3- تم التخلي شيئاً فشيئاً عن دعم الطبقة الوسطى الناشئة لدعم طبقة الرأسماليين التي كان من المخطط إنشاؤها لتلعب دورا جيوسياسياً و اقتصادياً و أيضا فشلت هذه التجربة
4- إتباع سياسة غير حكيمة في إدارة القطع الأجنبي
5- صدور الكثير من المراسيم و القوانين الاقتصادية الغير متجانسة مع بعضها و الغير مجدية كمنظومة اقتصادية متكاملة
6- إبرام العديد من الاتفاقيات الاقتصادية الدولية المجحفة و المدمرة للاقتصاد الوطني
الشيء الذي يدعو للاستغراب أنه تم انتهاج سياسة شبيهة بسياسة حكومات الحريري المتعاقبة في لبنان و التي أدت إلى إضعاف و تدمير الاقتصاد اللبناني و لم يتم الاستفادة من التجربة اللبنانية ( ما متت ما شفت مين مات ؟)
اعتمدت السياسة الحريرية على فلسفة البترودولار و يكمن مقتل هذه السياسة أو الفلسفة الاقتصادية بعدم فهم الجانب النقدي للاقتصاد و التعويل على الجانب النقدي بشكل مبالغ فيه أو أكثر مما يجب في إدارة العملية الاقتصادية ..
ما هي النقود و هل تقاس ثروة دولة ما بما تملكه من نقود ؟؟
إذا أردنا أن نفهم ماهية النقود الورقية وبعيداً عن الدخول في التفاصيل كل ما علينا أن نفعله هو قراءة العبارة المكتوبة على ورقة الدولار و تقول هذه العبارة بما معناه أن هذه الورقة هي وثيقة أو مستند صالح قانونيا للوفاء بالديون ( الالتزامات ) الخاصة أو العامة
أي أن النقود الورقية ليس إلا اصطلاح أو شهادة حكومية (سياسية ) تفيد بأن حامل النقد يستطيع أن يوفي بديونه أو التزاماته باستعمال هذه الورقة النقدية أو تلك .. نستطيع على المستوى الفردي أن نعتبر أن ثروة الفرد تقاس بما يملكه من نقود خلال مدة زمنية محددة وهذه إحدى وظائف النقود ( مخزن للثروة) لو كان مع فرد ما مبلغ مليون ليرة سورية هذا يعني عمليا أن الحكومة السورية ممثلة بالمصرف المركزي تشهد أن هذا الشخص يملك سلع أو خدمات أو عملة صعبة أو معدن ثمين بمقدار معين ...و لكن على المستوى القومي ( الاقتصاد القومي ) النقود ليست الثروة بحد ذاتها و ما تملكه الدولة من أوراق نقدية ليست إلا حبر فاخر على ورق فاخر ...النقود على المستوى القومي هي فقط وسيلة أو مسطرة لقياس الثروة و ليست الثروة القومية بحد ذاتها و أيضا هي وسيلة للتبادل ..إن الثروة القومية هي عبارة عن قدرة الدولة على الإنتاج بغض النظر إنتاج زراعي صناعي خدمي فكري تكنولوجي أو أي نوع من أنواع الإنتاج الاقتصادي .
فمهما ضخينا نقود في اقتصاد ما فإن هذا لن يكون مجديا من دون توسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد ( الاستثمار في قطاعات منتجة )
نلاحظ في الفترة الراهنة أن الفريق الاقتصادي الجديد للحكومة بقيادة وزير الاقتصاد يعيد ترتيب البيت الاقتصادي بشكل جذري و لا يستطيع أحد أن ينكر الإنجازات الهائلة التي تمت في هذا المجال وخصوصاً مراعاة الجانب السياسي و الاجتماعي و الإنساني للاقتصاد ... و لعل أهم خطوة على الإطلاق قام بها هذا الفريق هو التخلي عن عبئ المحافظة على سعر صرف الليرة السورية تجاه الدولار الأمريكي و التي تعني بشكل أو بآخر التخلي عن دعم الرأسماليين الانتهازيين المنحرفين ( الذين دعموا الأفكار اليمينية ) الذين شكلوا تحالفا مع بعض البيروقراطيين في الجهاز الحكومي كانت نتائجه تحقيق تخريب و ضرر أحاق بالاقتصاد و الشعب السوري على حد سواء. و بالتالي و لكي نكون موضوعيين و عادلين لا بد من تسجيل نقطة إيجابية بحق الفريق الاقتصادي الحالي مع العلم أن هذا الفريق لم ينجو من الانتقادات اللاذعة عندما كان يخطئ ( قرار تعليق الاستيراد المشهور )
إن المحافظة على سعر الصرف لا يعني شيئا في ظل انخفاض معدلات النمو الاقتصادي
و سعر صرف عملة ما لا يعبر عن قوة الاقتصاد بل قوة الاقتصاد تنبع من إنتاجية هذا الاقتصاد والدليل على ذالك أن الاقتصاد الثاني عالميا و هو الاقتصاد الياباني عملته هي الين و الكل يعلم القيمة المتدنية للين مقابل ليس فقط الدولار بل أيضا الليرة السورية هل يعني ان الاقتصاد السوري أقوى من الاقتصاد الياباني ؟ بالطبع لا ...
إذن أي خطوة تزيد من إنتاجية اقتصاد ما حتى لو كانت على حساب سعر صرف الليرة فهي خطوة ناجحة بالتأكيد إذا كانت متزامنة مع زيادة معدلات النمو و تحقيق مستوى عالي من العدالة في توزيع الدخل القومي.