في كل يوم تأتينا الدراسات الإحصائية بأرقام لها مدلولاتها العميقة و تستحق التوقف عندها مليا. آخرها ما طالعنا به بوب غودار Bob Goddard المستشار في شؤون التعليم العالي في كتاب جديد له صدر مؤخراً.
وهو أنه من المتوقع أن يزداد عدد الطلاب المسجلين في مؤسسات التعليم العالي في كل أنحاء العالم إلى أكثر من الضعف، ليصل إلى 262 مليون طالب وطالبة بحلول عام 2025. ومن اللافت أن جلّ هذا النمو سيتركّز بحسب التوقعات في البلدان النامية، مع استحواذ الصين والهند وحدهما على أكثر من نصف هذه الزيادة. كما يتوقع لعدد الطلاب الذين يسعون للدراسة في الخارج أن يرتفع إلى ثمانية ملايين نسمة أي تقريبا ثلاثة أضعاف ما هو عليه اليوم.
وأشار غودار أن هذه الزيادة تغذيها
باستمرار أعداد كبيرة من الشباب الذين يدخلون سن ذروة التعليم ، مع ارتفاع حاد في
معدلات المشاركة ، خاصة في سنوات التعليم غير الإلزامي.
ويتنبأ غودار ألا تكون البلدان النامية التي تعاني من ارتفاع كبير في الطلب على
التعليم العالي قادرة على توفير أماكن كافية تلبي حاجة الطلب المتزايد على التعليم
الجامعي، الأمر الذي سيحتّم على ثمانية ملايين طالب وطالبة، بحلول عام 2025، السفر
إلى بلدان أخرى للدراسة، وهو عدد يقرب من ثلاث أضعاف العدد الحالي.
ومن المتوقع أن يتجاوز متوسط النمو السنوي في الطلب على التعليم العالي الدولي في
الفترة الواقعة بين 2005 و 2025 الـ 3٪ في كل من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا
وأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية.
وعلى الرغم من أن عدم قدرة البلدان النامية على تلبية الطلب الداخلي المتزايد على
التعليم العالي على المدى المتوسط يعد عاملا رئيسيا في تحديد عدد الطلاب الذين
يسافرون إلى بلد آخر لأغراض التعليم، لكن الاعتراف المتزايد بفوائد الخبرة
التعليمية الدولية يعد عاملا هاما أيضا في حركية الطلاب وسفرهم إلى الخارج طلباً
للعلم.
ولطالما هيمنت البلدان الناطقة بالانكليزية على سوق التعليم العالي الدولية، لكن
هذا الوضع يشهد تغيراً
سريعاً. فبلدان
كانت تعدّ مصدراً تقليدياً مورّداً للطلاب مثل سنغافورة وماليزيا وتايلاند والشرق
الأوسط، أصبحت الآن تقوم بتطوير قدراتها على توفير التعليم العالي
ليس فقط لطلابها بل
أيضا للطلاب الأجانب.
سنغافورة، على سبيل المثال، تأمل في جذب مائة وخمسين ألف طالب أجنبي بحلول عام 2015، وماليزيا مائة ألف بحلول عام 2020، والأردن مائة ألف في نفس العام. ومن جهتها فإن الصين، على الرغم من مواجهتها طلب داخلي كبير على التعليم العالي، تخطط لتوسيع عدد الطلاب الأجانب المسجلين فيها من مائتي ألف طالب وطالبة في الوقت الحالي، إلى ثلاثمائة ألف بحلول عام 2020.
كما أن بعض الدول المتقدمة مثل اليابان التي أبدت في الماضي اهتماماً
ضئيلاً في مجال
تسويق جامعاتها في الخارج، إلا أن شيخوخة السكان، ووجود قطاع تعليم عالي غير مستغل
استغلالاً كبيراً، أدركت إمكانية توفير فرص لاستقطاب أعداد كبيرة من الطلاب
القادمين إليها من أنحاء مختلفة من العالم، وما يترتب على ذلك من عوائد مالية
وعلمية كبيرة.
وفي سورية، أشار التقرير الوطني الثاني عن حالة سكان سورية عام 2010 . إلاّ أنه من المتوقع أن يتوسع حجم السكان في سورية مع منتصف القرن الحالي، وفق الفرضية التشاؤمية المرتفعة للنمو السكاني، وذلك بمقدار 21,6 مليون نسمة زيادة عن حجمهم في العام 2010 البالغ 20,6 مليون نسمة، ليصل في العام 2050 إلى 42,2 مليون نسمة، وهذا يعني تنامياً وسطياً يفوق النصف مليون نسمة في السنة الواحدة خلال العقود الأربعة القادمة.
لهذا تبعات عظيمة على منظومة التعليم العالي لا بد أن يؤخذ بالحسبان في عملية الدراسة والتخطيط، إذا ما أريد لتعليمنا العالي أن يحقق المأمول منه. فمن البديهي أن يزداد الطلب على التعليم العالي تبعا لذلك ازدياداً كبيرا جداً خلال هذه الفترة. هذا الازدياد الهائل على الطلب لا بد لجامعاتنا ومؤسسات التعليم العالي لدينا من أن تتعامل معه بجدية بالغة وفق تخطيط علمي دقيق وجريء، وأن تتخذ كل ما يلزم لتوفير مستلزماته.
ومن الجدير بالذكر أن نتائج مسح سوق قوة العمل للعام 2009 أظهرت معدلات بطالة كبيرة ضمن فئة العمال الحاصلين على تعليم ابتدائي فما دون (45,5% من إجمالي العاطلين عن العمل). و 19,8% من فئة الحاصلين على تعليم ثانوي ، مقارنة بـفئة الحاصلين على تعليم متوسط (12,5%) ، وفئة الحاصلين على تعليم جامعي ( 6,7%). ويستدلّ من هذه النسب والأرقام أن حدة الطلب على التعليم العالي ستزداد حتماً ازديادا ملحوظا لتحسين قابلية التوظيف وفرص الحصول على عمل لدى خريجي المدارس الثانوية.
وبحسب التقرير نفسه فإنه على الرغم من زيادة نسبة بطالة فئة الحاصلين على تعليم جامعي بشكل عام ما بين عامي 2004 و 2009 (من 2,6% إلى 6,7%) من إجمالي العاطلين عن العمل، فإن نسبة العاطلين عن العمل من الجامعيين قد تراجعت بشكل عام في الاختصاصات الطبية والهندسية، بينما ازدادت في الاختصاصات النظرية، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة الطلب على الاختصاصات العلمية. فقد انخفضت مثلا نسبة العاطلين عن عمل في الطب البشري من 4,7% من إجمالي الجامعيين المتعطلين عام 2005، إلى 2,55% عام 2007، وفي الصيدلة من 2,61% إلى 0,61%، وفي طب الأسنان من 2,2% إلى 0,56% ، وفي الهندسة الكهربائية من 3,6% إلى 2,2%، وفي الهندسة المعلوماتية من 2,41% إلى 1,14%. في حين ارتفعت في الحقوق من 9,77% إلى 12,94%، وفي الاقتصاد من 8,47% إلى 13,72%، وفي الآداب والعلوم الإنسانية من 29,36% إلى 32,62%.
هذا يؤكد ضرورة أن تستعد مؤسسات التعليم العالي في سورية لمواجهة الطلب المتزايد على التعليم العالي المتوقع حصوله في العقود القليلة القادمة بسبب النمو السكاني من جهة، وبسبب الارتفاع المتوقع في معدلات الالتحاق بتلك المؤسسات من جهة أخرى، وهو أمر ناتج عن تضاؤل فرص التوظيف للفئات غير الحاصلة على تعليم ما بعد الثانوي.
ويكون ذلك بافتتاح جامعات جديدة عامة وخاصة لا بزيادة استيعاب الجامعات الحكومية الحالية التي بلغت طاقتها القصوى، كما يحتّم هذا تحويل فروع الجامعات الحكومية القائمة حاليا في المحافظات إلى جامعات مستقلة بعد توفير كل مستلزمات ذلك من بنى تحتية وتجهيزات مخبرية وقدرات بشرية.
وبالفعل تخطط جامعة دمشق لافتتاح جامعة دمشق الثانية في منطقة التل، وكذلك لتحويل فروعها في المحافظات الجنوبية التي أصبحت تضم عددا كبيرا من الطلاب والتي أحدثت نقلة نوعية في تنمية القوى البشرية في المحافظات الجنوبية، إلى جامعات مستقلة بعد تهيئة المقرات الدائمة لها وهو ما تسعى إليه جامعة دمشق حالياً.
كذلك يجب أن تلعب الجامعات الخاصة دوراً أساسيا في توفير فرص تعليمية إضافية للطلاب في اختصاصات نوعية مطلوبة في سوق العمل لاستكمال النقص في الاختصاصات الحديثة العملية التي نجد مثيلا لها في الجامعات العالمية، وخلق كفاءات متميزة وفرص عمل مبتكرة.
ولا ننسى أهمية تطوير المعاهد التقنية كي ترفد سوق العمل بالفنيين اللازمين في طيف واسع من التخصصات الفنية والمهنية، ودراسة أسباب عزوف الطلاب عن التسجيل في بعضها وهو ما شهدناه خلال الأعوام الماضية رغم زيادة الطلب على التعليم العالي والارتفاع الكبير في عدد الناجحين في شهادة الدراسة الثانوية بكافة فروعها.
إن إعداد دراسة دقيقة على المستوى الوطني لتحديد الاحتياجات المستقبلية لسوق العمل من الموارد البشرية أصبح من الضرورات الحتمية لأن الاستمرار في الخلل الكمي والنوعي الحالي بين مخرجات التعليم الجامعي واحتياجات سوق العمل لا يمكن إلا أن يؤثر سلباً في عملية التطوير وأن يعيق أية خطة للتنمية البشرية وللنهوض بالاقتصاد الوطني.
(عن جريدة الوطن 4/3/2012)